| 2 comments ]

وردي.. كل شيء وردي في الخارج أيضاً.. الشارع غير الشارع، والبيوت غير البيوت


 رائحة الكعك

روائح طيبة تلك التي التقطتها أنفي في تلك اللحظة.. كنت ماراً أمام شقة جارتي السيدة (حسناء)، عندما شممت تلك الرائحة الذكية.. توقفت هنيهة، حتى تلتقط أنفي ما يمكنها التقاطه من تلك الرائحة التي لم أعرف لها مثيل من قبل.. كدت أتحرك، ولكنها فتحت الباب، كاشفه عن وجهٍ مُضيء، تملؤه الحيويه والنضاره.. أفرغت قمامتها، في صندوق القمامة، ثم نظرت لي، وقالت:

-أستاذ (حافظ).. مرحباً..

رددت عليها التحية، واستأذنتها في الرحيل، ولكنها استوقفتني، وعرضت علي الدخول..

-أدخل؟.

-نعم.. لتتذوق الكعك الذي أعددته.. هذا إن أحببت بالطبع.

ولم أستطع الرفض بالتأكيد.. من الأبله الذي يرفض عرض مثل هذا، ومن سيدة حسناء، مثل (حسناء).. فتحْت الباب عن آخره، وتنحّت جانباً مُفسحه مكاناً للدخول، فدخلت.. شقة نظيفه، مُنظّمه.. الستائر مُرتّبه بعنايه، والأضواء موزّعه بشكلٍ مُلائم، والموسقى الهادئة تنبعث من لا مكان.. أشارت لي بالجلوس، فجلست.. الرائحة أصبحت أقوى بالطبع، وصوت الموسيقى يجعل الأمر أشبه بالحُلم.. أتمايل مع الموسيقى، وتعبق أنفي المزيد من الرائحة الذكية.. ياليتني أظل هُنا للأبد، مع السيدة (حسناء).. ماذا يريد الرجُل، سوى امرأة حسناء، تعني به، وتحيل دنياه، إلى جنه على الأرض.. وقتها سأتمنى الخلود، بدلاً من تمني الموت المُستمر.. وقتها سأتمنى أن أحيا للأبد، وسأتمنى ألاّ يأتي (الأبد) أبداً!.. قطعت علي أفكاري السيدة (حسناء).. تأتي خارجه من المطبخ، حامله صحفة عليها بعض الكعك طيب الرائحة، لذيذ الطعم بالتأكيد، وكوب من اللبن.. وضعتها أمام المنضدة أمامي، ونظرت لي، وابتسامتها تداعب شفتيها، وقالت:

-تذوق، وأخبرني برأيك.

أمد يدي، وعيناي لا تزالا، مُعلّقتان على وجه السيدة (حسناء).. أمسك بقطعة صغيرة من الكعك.. أقربه من فمي، وأتذوق..
***
القضمة الأولى.. ستشعر بفكرة النوم، تتسلل إلى عقلك..

القضمة الثانية.. يتسلل النوم، من عقلك، إلى عينيك..

القضمة الثالثة.. تشعر بالخدر في جميع أطرافك..

القضمة الرابعة.. أنت تستسلم لإحساس النوم..

القضمة الخامسة.. أنت تنام.
***
أفتح عيناي، لأجدني مرتدياً ملابس غير ملابسي، مستلقٍ على فِراش غير فِراشي، وفي منزل غير منزلي.. متى نمت؟.. آخر ما يتذكره عقلي، هو طعم الكعك اللذيذ الذي قدمته لي السيدة (حسناء)، نظراتها، ابتساماتها، صوتها الدافئ، ثم.. لا شيء.. لا أذكر ما الذي حدث بعد ذلك.. أنهض.. أتثائب، وأتمطّى كمن نام دهراً.. أنظر حولي، فأجد كل شيء وردي.. الملاءات، الستائر، الفِراش، الوسادات، حتى منامتي التي لا أعرف كيف، ولا متى ارتديتها.. كانت ورديه.. أكاد أجن.. ما الذي حدث.. الرائحة.. تلتقط أنفي رائحة.. إنها تلك الرائحة الذكية التي شممتها في دار السيدة (حسناء)، ها أنا ألتقطها الآن بأنفي الحساس.. أفتح الباب -الوردي، وأخرج.. لم أرَ منزل مثل هذا من قبل.. من الذي يعيش في منزل كل مافيه وردي هكذا، والأهم: كيف أتيت أنا إلى هُنا؟.. لحظات، من الألوان الوردية أمام عيني، ثم أتتبع الرائحة ثانيةً.. دخلت مكانٍ، يبدو أنه مطبخ، ولكنه أكبر، وأكثر اتساعاً، من أن يكون مطبخاً.. أكبر، وأكثر اتساعاً، من أن يكون أي شيء.. في نهايته، كانت تقف السيدة (حسناء)، تعد الكعك الخاص بها.. ما إن لمحتني، حتى تجلّت ابتسامتها على شفتيها، تلوّن خديها، بلونٍ وردي هو الآخر، وقالت:

-حبيبي.. جيد أنك استيقظت الآن.. كنت سأناديك على كل حال؛ لتتذوق الكعك المُفضّل لديك.. هيا اقترب، وخذ واحدة..

نظرت لها، نظرة الطفل الذي لا يفهم ما الذي يدور أمامه، ثم سألتها، بصوتٍ اقترب من البُكاء في نبرته:

-ما الذي يحدث.. أين أنا، وكيف أتيت إلى هنا، وما هذا المكان من الأساس؟؟؟.

نظرت لي ثانيةً، ثم عادت تنظر لما تفعله، وقالت:

-ما هذه الأسئله السخيفة؟.. ألا تذكر منزلك، و زوجتك، والحي الذي عشت فيه طوال حياتك؟؟؟.

منزلي، زوجتي؟؟.. ما كُل هذا السخف؟.. إن الأمر يبدو كمزحه سخيفة.. كذبة أبريل، إن أردت التخمين.. بعد قليل، سيخرج أصدقائي، وأقاربي؛ ليفاجئوني بقولهم "كذبة أبرييييييييل.. مفاجأة"!.. ولكني لا أظن، أن هناك كذبة بهذا الشكل، وهذا الإحكام..

-حبيبي.. مابك؟.. أشعر أنك على غير ما يرام اليوم.. ما رأيك أن تخرج للشُرفة؛ لتتنشق بعض الهواء النقي؟.

الشُرفه؟.. نعم، الشرفه، حيث يمكنني النظر إلى الخارج، والرؤية بشكلٍ أفضل.. أهرع، أبحث عن الشرفة، أفتح كل الأبواب.. كل شيء وردي.. الستائر، والسجاد، واللوحات المُعلّقة على الجدار، و... كل شيء.. آخيراً لمحت الشرفة.. توجهت بسرعة نحوها، مددت يدً ملهوفة، وفتحت بابها الوردي.. وردي.. كل شيء وردي في الخارج أيضاً.. الشارع غير الشارع، والبيوت غير البيوت، والإناس... لا يوجد إناس.. أين البشر؟.. اين المارة؟.. أين السيارات، والحافلات، والكلاب الضالة، والباعة الجائلين؟.. لا يوجد أحد.. لا يوجد غيري، و... والسيدة (حسناء)..

-أأصبحت أفضل الآن؟.

كان صوتها، يأتيني من خلفي.. ألتفتّ إليها، فوجدتها تقف، حاملة صحفة عليها بعض الكعك، وكوب من اللبن.. نفس الإبتسامة، ونفس الرداء الوردي، والوجنتين الملونتين بالوردي..

-ماذا فعلتِ؟.

سألتها، ضاغطاً على حروف كلماتي، فأتت الإجابه:

-فعلت ماذا؟.

قلت، محاولاً رسم الجدّية، بدلا من الذهول على وجهي:

-فعلتِ ماذا؟.. هذا!.. كل شيء.. ماذا فعلتِ بي.. أين أنا، وأين العالم الحقيقي، حيث أعيش؟؟..

-لا تَكُن سخيفاً في مزاحك يا حبيبي.. أنت هو أنت، والعالم هو العالم..

لا.. هذا ليس عالمي، وأنتِ لستِ بزوجتي.. أين أ... الكعك.. لابُد أنه الكعك.. لابد أنها دسّت لي مُخدّراً ما، وربما هو ما يسبب لي هذه الهلاوس أيضاً.. أنظر حولي، أُحرّك رأسي، أضرب وجهي بيدي؛ لأستيقظ.. ولكن لا يحدث أي شيء.. أدفعها، وأركض باحثاً عن باب الخروج.. أبحث كالغريق يبحث عن فرع شجرة يتعلّق به.. أبحث، وأصرخ:

-أريد الخروج من هناااااااااا..

أخيراً عثرت على الباب.. ربما ينتهي كل ذلك عندما أخرج.. ربما هي كذبة أبريل.. ربما ينتهي مفعول المُخدّر، ربما أي شيء.. أمد يدً مرتعشة، وأفتح الباب، وأخرج...

-أااااااااااااااااااااه..

صرخة انطلقت من حلقي، وتبعها صداها.. كل المنازل تشبه بعضها، تمتد لما لانهاية.. كلها وردية، وكلها ذات طابق واحد، وكلها تحمل نفس الشكل.. أصرخ ثانيةً:

-أين أناااااااااااااااا؟..

ومرة أخرى:

-هل من أحدٍ هُناااااااااا؟..

ولا صوت سوى صوتي، وصداه.. ربما إذا ذهبت لمنزل آخر... أتجه سريعاً، لأحد تلك المنازل.. أطرق الباب -الوردي.. ينفتح؛ لأجد وراءه (حسناء)، تحمل الصحفة، عليها الكعك وكوب اللبن، وتقول:

-حبيبي.. ألا تريد تذوق كعكي اللذيذ؟.

أبتعد.. أعود للوراء، ورأسي يدور.. أركض، أجرب منزلاً آخر، و...

-حبيبي.. قطعة واحدة فقط.. هيا..

-لاااااااااااااا!..

ما الذي يحدث.. أين أنا، وأين عالمي؟؟.. أقف في منتصف الشارع الفارغ، وأصرخ.. أصرخ، ولكن لا يسمعني أحد.. يا إلهي.. متى ينتهي هذا الحلم.. متى ينتهي مفعول المُخدّر؟.. متى يظهر أصدقائي من مكانٍ ما؛ ليقولوا:

-مفاجأة.. كذبة أبريييييييييييل.
***
يقولون..

يقولون أن هناك شيطانة.. تظهر من حين لآخر، في مكانٍ ما.. تظهر في ثوبٍ غير ثوبها، بشكلٍ غير شكلها.. تظهر؛ لتطهو الكعك، وتجلس؛ لتنتظر أول من تتعثر قدماه، أمام منزلها، وتلتقط أنفه رائحة كعكها.. وما إن يأكل تعس الحظ، من الكعك، يصبح تحت سلطتها.. وقتها -ووقتها فقط، تسحبه إلى عالمها.. عالمها الوردي.
***
يا إلهي.. متى ينتهي هذا الحلم؟.




تمت
مصطفى اليماني
12 /1 /2011


التعليقات : 2

إيثار

القضمة السادسة.. ستدرك أنك لن تصحو بعد اليوم

مصطفى اليماني

للأسف، لن يصحو، لكنه لن يأكل من الكعك ثانيةً أيضاً!.

إرسال تعليق


أترك تعليق أو اضغط (Like) إذا أعجبك ما قرأته، وإذا لم ينل إعجابك، أخبرني: لماذا؟..
يمكنك الإشتراك عن طريق البريد الإلكتروني -أسفل صندوق التعليقات- لمتابعة الردود، وأرجو عدم وضع أي روابط دعائية في التعليقات.