| 2 comments ]

مقدمة

-"لاتخف.. لن تشعر بأي شيء."

هكذا قال، وهو يمسح مطرقته من آثار الدماء العالقه بها.. لن أشعر بشيء.. نعم، وكأن هذا يهمني. من أنا؟ لايهم، مايهم الآن، هو: ماذا أفعل في ورشة تصليح السيارات القديمة، جالساً على مِقعد خشبي، ويدي مكبله وراء ظهري، والدماء تنزف من كل مكان في وجهي.

يبدو أنه انتهى من تنظيف مطرقته الصغيرة، وهاهو يلتفت لي، ويتقدم نحوي ببطئ، وثقه.. لماذا لا، وقد نجح في تكبيل من كان يظن أنه لن ينجح في الإمساك به أبداً؟ يتقدم نحوي ببطئ غريب، وكأنه يثق في أن كل وقت الدنيا معه.. حسناً، أنا لن أذهب لأي مكان، ولكن المشكلة؛ هي أنني مللت بعض الشيء.. أريد حك أنفي أيضاً.. هاهو يقف أمامي مباشرةً.. يبصق على يساره، حيث تكومت 3 جثث؛ لأشخاص كانوا حتماً يأملون في يوماً آخر، يحتسون فيه قهوتهم الصباحية، ويداعبون فيه أبنائهم.. ينظر لي، وأنا أرسم على وجهي ملامح الشخص الغير مبالي بأي شيء.. حسناً هذه حقيقة، فأنا لا أبالي لو احترق العالم الآن.. يرفع يده اليمنى التي تمسك بالمطرقة؛ ليهوى بها على رأسي.. في اللحظة التالية كان ينظر لمقعد خشبي فارغ، وأربطة تقيد الفراغ..

أعشق هذه اللحظة، حيث يبدون كالبلهاء.. أطفال فقدوا أيدي أمهاتهم في الزحام.. من وراءه قلت:

-"هيه، أنت.. هل تعرف لعبة (الآن تراه- الآن لا تراه)؟."

نظر وراءه بسرعة، فلم يجدني؛ لأنني وقفت بجانب المقعد الخشبي هذه المرة، وأسندت ساقي اليمنى عليه..

-"أنا من ابتكر هذه اللعبة."

كان يحدق في الفراغ، قبل أن يلتفت لي ثانيةً، ولكن هذه المرة لم أذهب لأي مكان، وهو أيضاً لم يضع وقته في الوقوف مدهوشاً، والتفكير في إجابة منطقية لِمَ يحدث؛ لأنه رفع مطرقته بسرعة، وهمّ لتهشيم رأسي..

حسناً، لم يعد هذا ممتعاً على أية حال.. أخرجت من جيبي حبيبتي اللامعة، ذات المقبض الفضي، والنصل الحاد، ثم تلاشيت سريعاً، ووقفت وراءه.. وقبل أن يلحظ أي شيء، أتممت الأمر.. كان ملقى على الأرض بالقرب من ضحاياه الجدد، ودماءه تصنع دائرة حمراء حوله.. البائس، ظن أنه نجح أخيراً في الإمساك بـ...

من أنا ثانيةً؟.

***
1- سيزيف
أفتح عيني على صوت المنبه المزعج، يخبرني أنها السادسة صباحاً.. أتجاهله، لكنه لايستسلم.. أتعلمون؟ هناك عدة مشاهد لاتتغير أبداً في يومي: الإستيقاظ صباحاً، الإغتسال، حلاقة الشعيرات الصغيرة النامية في لحيتي، ارتداء الملابس، وأخيراً الخروج للعمل.. إنني سيزيف اللعين، أو أي أسطورة أغريقية أخرى، تحتوي على عقاب يتكرر كل يوم.. 

في العمل يبدأ الجزء الثاني من اللعنة.
***
عملي هو (رعاية المسنين)  في دار لرعاية المسنين.. في مكان مليء بأشخاص يحاولون الحفاظ على ماتبقى لديهم من وقت.. هل هناك مجال للتفكير في الحياة؟! يبدو الأمر كأنك في مشرحة، مليئه بالموتى، لكنهم يرفضون الإعتراف بحقيقة أنهم ماتوا منذ زمن.. ولذلك يتحركون، يجلسون، يشاهدون التليفزيون، يذهبون إلى دورات المياه.. تماماً مثل الأحياء. في أحد الأحياء الراقية تقع دار (الخلود) لرعاية المسنين.. ثلاثة طوابق وحديقة واسعة تُرعى بعنايه، وأشخاص يرعون أشخاص..

خرجت من سيارة الأجرة، بعدما أخذ السائق ضعف ماكان يطلبه، من الجميع. من بعيد تستطيع أن تلمحهم، يجلسون على المقاعد المتحركة، يحاولون الإبتسام، يراقبون المزروعات في الحديقة، أو يلعبون الجولف (لعبة كبار السن والمقام)..

على البوابة يقف (حارس)، الذي يعمل كـ حارس للدار.. ألقي عليه السلام، فيردد مزحته المعتادة:

-"ليت كان اسمي (طبيب)، أو (مهندس) يا أستاذ (إمام)!."

أبتسم؛ كأنني أسمعها للمرة الأولى.. تعلمون؟ أعتقد أنه بعد كل مرة يلقي فيها تلك المزحه السخيفة، يجلس ليأسف على حاله بالفعل.  وراء البوابة الحديديه، تقابلكم تلك الحديقة الكبيرة.. هناك (مرعي) الذي قطع الطريق من محافظته؛ ليتخبط في أنحاء العاصمة، ولينتهي به الأمر كـ(جنايني) في دار مسنين، يمسك بخرطوم المياه، ويرش بعض الشجيرات الصغيرة الجديدة.. هذان الممرضتان هما (صفاء) و(ناهد).. معهما تشعر أن كل شيء هو مزحه، تستحق أن تضحك عليها.. فتاتان جائتا من نفس الحي، تعملان، وتتحركان معاً.. وفي نهاية اليوم، تذهبان معاً.. ألوح لهما وأنا أرسم ابتسامة، فيلوحان لي، ثم يضحكان. الساعة الآن الثامنة والربع، هذا هو الوقت الذي تُفتح فيه النوافذ لتدخل الشمس غرف النزلاء، الذين يستيقظون ما إن تلمس الشمس جفونهم.. هذا هو الوقت الذي تملئ فيه الحديقة برجال وسيدات، ذوات أعمارٍ متقاربه، وأبناء ذوات..

أسير ناحية الدار؛ لأجد السيدة (حكمت) شبية (فردوس عبد الحميد)، ومديرة الدار.. تقف كقائد الكتيبة، في انتظار العاملون في وردية الصباح.. تنظر لي من فوق نظارتها الطبية..

-"أستاذة (حكمت).. صباح الخير."

للحظة ظننت أنها ستصفعني، قائلة: تجرؤ على إلقاء الصباح؟! لكنها لم تفعل لحسن الحظ.. فقط قالت:

-"أستاذ (إمام).. أنت متأخر 15 دقيقة، مرة أخرى.. أتعرف مايعني هذا؟."

يعني أن الطرقات أصبحت أكثر زحاماً من زي قبل أيتها البلهاء..

-"آسف.. لن أكررها ثانيةً."

-"في كل مرة تقول هذا."

محتفظاً بملامحي اللامباليه، وأعصابي الباردة:

-"هذه المرة أعني ما أقول."

أبتسم، وأتركها سريعاً قبل أن تتابع، وأدخل الدار.
***
 الطابق الأول، حيث مكتب الإدارة، وغرفتيّ تبديل الملابس، والعيادة الطبية، والمطبخ، وغرفة المعيشة التي تحتوي على جهاز تليفزيون والكثير من المقاعد المريحة، المخصصة لأرداف المسنين الواهنه.. هناك أيضاً غرفة مخصصة للعلاج النفسي، لكنها لا تُستخدم سوى مرة واحدة في الإسبوع؛ عندما يأتي الدكتور (عوني)، الطبيب النفسي الأربعيني.. الطابق الثاني والثالث للنوم..

أدخل غرفة تبديل ملابس الرجال؛ لأرتدي ملابسي الكريهه.. يشبه رداء الممرضين، لكنه باللون الأخضر. في الداخل أجد (مينا) المراهق ذو الـ 20 عاماً، يجلس على أحد المقاعد الخشبية بنية اللون، ويقرأ في مجلة مصورة، تحتوي على بطل خارق ما -غالباً هو سوبر مان- ألقي السلام عليه، فيجفل..

-"أوفف! أعتقدتك أستاذة (حكمت).. هل رأيت هذا العدد الجديد؟."

أحدثه وأنا أبدل ثيابي:

-"أليس من المفترض أن تساعد في نقل النزلاء للحديقة، وغرفة المعيشة الآن؟."

-"أعرف.. سأنتهي سريعاً وأخرج."

(مينا) يسكن قريباً من الدار؛ لذلك لايواجه مشكلة في القدوم في موعده.. فتى جديد هو، لايزال في فترة التجربة، حيث يتطوع المرء للعمل لمدة شهر بدون مرتب، وفي النهاية تقرر السيدة (حكمت) إذا كان يستحق العمل هنا، أم لا.. ويبدو أنه مفتون بالقصص المصورة، التي تحتوي على أبطال خارقين..

-"أوفففف! هناك جزء ثاني.. سأضطر الإنتظار حتى الأسبوع القادم."

وضعت يدي على كتفه وقلت:

-"لا تقلق ياصديقي.. (سوبر مان) سيحيا، لكن من في الخارج، ربما لن يستطيعون الصمود ليوم آخر."

-"إنه (سبايدر مان) بالمناسبة."

وقبل أن أخبره؛ أنه لا فارق؛ لأن الإثنان يعملان بالصحافة.. تجمدت يدي على مقبض الباب، عندما سمعنا الصرخة.
***
خرجنا للحديقة، وللوهلة الأولى، بدا الأمر وكأن أحدهم ضغط زر التوقف.. كل شيء تجمد في لحظة انطلاق الصرخة.. السيدة (حكمت)، والممرضتان (صفاء) و(ناهد)، و(مرعي) الجنايني.. حتى (حارس) دخل سريعاً من البوابة ليتجمد هو الآخر.. بعض المسنين الذين خرجوا إلى الحديقة، بدوا وكأنهم لم يسمعوا شيء -أم أنهم لم يسمعوا فعلاً؟- وبعضهم تجمد في مكانه هو الآخر.. كان أول من تحرك من مكانه هي السيدة (حكمت)، حيث صاحت بنا:

-"تحركوا؛ لتروا ماذا يحدث."

تحرك المشهد، وسارع الجميع بالإنطلاق ناحية مصدر الصوت، والذي يبدو أنه أتى من الطابق الثالث.. لم أتحرك بسرعة مثلهم، بل تباطئت عن عمد.. كلهم يحركهم الخوف والفضول.. لكني كنت أعرف..

يبدو أن واحد آخر لم يستيقظ من نومه في هذا اليوم.
***
عندما وصلت، كان المشهد يشبه لوحة سيريالية عبثيه.. جميع المسنين خرجوا من غرفهم، يسيرون ببطئ، ويستندون على عكازات، ويجلسون على مقاعد متحركة.. مازال الجميع يرتدي ملابس النوم.. هناك أصوات بكاء، وهناك من تحتضن أخرى وتبكي على كتفها، وهناك آخر يستند على الحائط وينظر للسقف بحزن..

ألقيت نظره من بعيد، على الغرفة التي كان الجميع يحاول دخولها.. نعم، كما قلت.. واحد آخر لم يستيقظ من نومه.. واحد آخر، لن يحصل على محلول الجلوكوز المفضل لديه.. واحد آخر، لن يشاهد مسلسل الثامنة والربع.. إنه الأستاذ (رأفت) الرجل الذي كان يعمل في المحاماة، قبل أن يجلبه أولاده إلى هنا، ويدفعوا للسيدة (حكمت) مايكفي لعدة سنوات قادمة. كانت الصرخة من السيدة (عايدة) التي تجلس بجانب فِراش الأستاذ (رأفت) وجسده المسجي عليه، تبكي بحرقة، وتردد:

-"ناديته لكنه لم يرد.. هززته لكنه لم يستيقظ."

ثم تدفن رأسها في صدر الممرضة (ناهد) وتبكي.. الكل يدخل؛ ليلقي نظرة، على ماسيكونه في يوم ما.. جسد مسجي على فِراش، بلا حراك.. جسد يتكون من التجاعيد، والشعر الأبيض، والبثور.. لكن لاحركة. خرجت السيدة (حكمت) من الغرفة، وقالت أنها ستذهب لتتصل بأولاده؛ ليحضروا، ويقوموا باللازم، ثم نهرتنا، وأمرتنا بإبعاد الجميع عن الغرفة..

إنها غاضبة؛ لأنها ستضطر لإعادة بقية المبلغ المدفوع لأبناء الأستاذ (رأفت)، لو طالبوها به.
***
أمام المرآة، داخل إحدى دورات المياه، انحنيت مقرباً وجهي لصنبور المياه المفتوح.. فليلمس الماء وجهي.. لماذا لم أعد أشعر بأي شيء؟ لا أعرف.. ربما لأن... لا، هذا ليس التفسير الصحيح أيضاً.. أغلق الصنبور، وأعيد النظر للمرآة.. ألمس وجهي بيدي..

-"ماذا، إلى ماذا تنظر؟."

أفتح الصنبور ثانيةً، وأغسل وجهي مرة أخرى..

-"أنت حصلت على ما أتمناه أنا؛ ربما لأحصل على بعض التغيير. لماذا كنت تتمسك بحياتك، هه؟ قل لي؟."

-"(إمام)، هل تحدث نفسك؟."

كانت هذه من (مينا) الذي دخل فوجدني أنظر في المرآة وأتحدث.. قلت له:

-"ماذا هنالك؟."

-"أبناء الأستاذ (رأفت) وصلوا، والأستاذة (حكمت) طلبت منا الإهتمام بأمر النزلاء، ككل يوم."

وأنا أمسح وجهي بمنشفة:

-"حسناً، سآتي وراءك."

ثم غادر (مينا)، وهو يحدث نفسه.. لابد أنه يفكر في أنني جننت، أو أن موت الأستاذ (رأفت) أثر في..

-"أبناءك وصلوا.. هل تريد رؤيتهم؟."

ظهر ثانيةً.. حرك رأسه نافياً، ثم تبدد في الهواء مرة أخرى، مثل دخان سيجار فاخر.

إن الأستاذ (رأفت) لايريد أن يرى أبناءه.
***
كان يوماً صامتاً، كما ينبغي له أن يكون.. الصدمة، الصمت، الدهشة، عدم التصديق، دموع تهبط في صمت... لم تكن أول مرة، يموت فيها أحد نزلاء الدار، لكن هذا يحدث في كل مرة على أية حال.. حبة أخرى، سقطت من خيط المسبحة.. لابد أن كل واحد فيهم، يفكر الآن؛ أنه هو الحبة القادمة. كنا نحن نقوم بأعمالنا المعتادة.. مساعدة النزلاء في التنقل، الإفطار، إحضار صحف اليوم، فتح التليفزيون، تغيير ملائات الأسرة، والتنظيف.. بعد كل هذا، يلعب كل منا، دوره اليومي المعتاد: أن تكون فرداً من العائلة.. يجب أن تُشعر كل نزيل؛ أنك ابنه، أو أخيه الصغير، أو أي شخص قريب له، يجب أن يهتم لأمره.. لذلك أجلس بالقرب من السيد (رافع)، يتحدث هو، وأنصت أنا..

-"كان (رأفت) رجلاً طيباً.. كان يهتم لأمر الجميع، لكن أولاده لم يهتموا لأمره أبداً."

ثم سكت قليلاً، وسالت دمعة على خده الأيمن.. لم يمسحها، وتابع:

-"أذكر عندما ظللت أسعل ليلاً في الظلام.. لم يسمعني أحد وقتها، وظننت أنني سأختنق وأموت، لكنني وجدت (رأفت) يمد يده خلف ظهري؛ ليساعدني على الجلوس، ويمسك بكوب الماء، يعطيني إياه.. يومها ابتسمت له، وأخبرته أنه منقذي.. لكني لم أستطع إنقاذه اليوم."

-"أنت تعرف أن ماحدث لم يكن بيد أحد، ولم يكن لأحد أن يفعل شيئاً حياله."

 إن هؤلاء القوم، يعيشون على اجترار ذكريات الماضي؛ لأنه لايوجد مستقبل أمامهم، وحاضرهم ثابت لايتغير.. كانت الساعة العاشرة، عندما غادرت سيارة الإسعاف وبداخلها جثمان السيد (رأفت)، وأبناءه الثلاثة يستقلون سياراتهم، بعدما انتهوا من إجراءات الدار الورقية.. ويبدو أنهم لم يطالبوا ببقية المبلغ الذي دفعوه؛ لأنني ألمح الإرتياح يرتسم على ملامح السيدة (حكمت) الواقفه أمام مكتبها، وقد عقدت ذراعيها، تتأمل الموجودات..

كانت الساعة العاشرة، عندما أتى (وائل) وشقيقته التوأم (ولاء).. وائل وولاء، يعملان معنا منذ مايقرب من الأسبوعين.. في الواقع، هما يمرحان، أكثر منهما يعملان، والسبب في قدومهما المتكرر بشكل متأخر، والمرح الذي لايجدان صعوبة في إظهاره؛ أن والدهما يدفع للدار، حتى يعمل ولداه.. يبدو أنه كان يريد لهما أن يتعلما بعضاً من الجدية والصرامة، لكن يبدو أيضاً أن هذا لايفلح.. على كل حال، النزلاء يحبونهما، والسيدة (حكمت) لاتجد ضرراً منهما، مادام والدهما يدفع لها..

باختصار حتى لا أطيل عليك: كان مجرد يوم آخر، في دار (الخلود) لرعاية المسنين..

باستثناء غرفة السيد (رأفت) في الطابق الثالث، وذلك الظل الذي يطل من نافذتها.. يبدو أنه ينظر لي، وينتظر مني الصعود.
***
قلت وقد جلست على فِراش السيد (رأفت):

-"ماستفعله، هو أنك ستظل هنا -في غرفتك- حتى يأتي من يصطحبك، ولا تسألني "لأين" لأنني لا أعرف! ربما يتأخر قليلاً؛ لذلك أطلب منك أن تحتفظ بأعصابك؛ حتى لا تتحول غرفتك "لغرفة مسكونه".. نحن لا نريد للأمر أن يُحدث ضجه بالتأكيد."

كان لايزال واقفاً مكانه، ينظر من وراء النافذة.. ألتفت لي، وقال:

-"أنت.. أنت (إمام).. كيف تراني؟."

-"أراك وحسب.."

استدار لينظر مرة أخرى.. كانت النافذة تطل على الحديقة التي اعتاد أن يجلس بها كل يوم.. وقفت بجانبه، وقلت:

-"لاتقلق.. الكل كان يحبك، ولاحديث لهم، سوى عنك."

هز رأسه، بدون أن ينظر لي. في ماذا يفكر؟ في لعبة الشطرنج، التي لن يلعبها ثانيةً.. في صحيفة الصباح، التي لن يقرأها مرة أخرى.. فنجان القهوة، من يد (عبير) عاملة المطبخ.. تبدو لي كأشياء، لاتستحق أن يحزن المرء؛ لأنه تركها وراءه..

خرجت عندما دخل (وائل) و(ولاء).. يبدو أنهما أتيا للتنظيف.. قالت (ولاء):

-"لماذا أصبح الجو بارداً فجأه؟."

قبل أن أغادر:

-"كان بارداً منذ الصباح."
***
في نهاية اليوم، يذهب الجميع لتبديل ملابسهم، ويقفون أمام الدار، في انتظار العاملون في وردية الليل.. قبل أن نذهب، نودع النزلاء، الذين جلسوا أمام التليفزيون في غرفة المعيشة، لاتعرف إن كانوا يشاهدون فعلاً، أم هم يفتعلون ذلك.. لاتعرف إن كانوا يحاولون التعايش مع الأمر، ونسيانه، أم هم نسوا بالفعل.. هل المصاب بالـ ألزهايمر، ينسى شيء كهذا، أم أن عقله يحتفظ به، برغم كل شيء؟؟ لن نعرف أبداً، إلا عندما نصل لأعمارهم.. وهو مالا أريده أنا..

وصل كل العاملون بوردية الليل.. صافحونا، ودخلوا.. هنا نستطيع الذهاب؛ بعدما اطمئن كل واحد؛ أن هناك من سيملئ مكانه.. خرجنا من البوابة، وصافحنا بعضنا، ثم ذهب كلٍ منا في طريقة.

قبل أن أغادر البوابة، نظرت للطابق الثالث، حيث غرفة السيد (رأفت).. كان لايزال في مكانه، واقفاً خلف النافذة التي تطل على الحديقة..

أعتقد أنه سيظل هكذا، حتى ينتهي الأمر.
***
على محطة انتظار الحافلة، قال لي (مينا):

-"هيه (إمام).. سأقضي الليلة مع بعض الأصدقاء بوسط البلد.. ربما نذهب لمتجر بيع القصص المصورة أيضاً.. هل تأتي؟."

-"ربما في وقت آخر ياصديقي.. في وقتٍ آخر."

أتت حافلته، فقفز بداخلها سريعاً، قبل أن ينطلق سائقها مسرعاً.. إنها السادسة مساءً، حيث الصخب يملئ كل مكانٍ، ماعدا هذا الحي، وكل الأحياء المشابهه له.. يبدو أنني سأضطر للسير قليلاً؛ لأن حافلتي لم تأتي حتى الآن.
***
 فتحت عيني ببطئ محاولاً الإعتياد على الضوء الأصفر الباهت، القادم من لمبة وحيدة تتدلى من السقف.. أين أنا؟ جالساً على مقعد خشبي، ويداي مقيدة وراء ظهري، والدماء تنزف من وجهي.. صداع.. ماذا حدث؟ آخر ما أذكره أنني كنت أهم بالسير، عندما رأيت تلك الحافلة قادمة من بعيد.. انتظرت، لعلها تكون حافلتي.. وقفت أمام بابها، الذي كان يُفتح ببطئ، و...

لا أذكر ماحدث بعد ذلك.. يبدو أنني تلقيت ضربة على رأسي.. من مكانٍ ما سمعت صرخات لما يبدو أنهم 3 أشخاص..

-"لااااااا، أرجوك، لا تفعل، سنفعل أي شيء، أي..."

ثم صوت طرقة؛ كأن هناك شخص يحطم شيء ما.. سكن صوت، بينما الآخران يصرخان.. نفس الطرقة، وسكن آخر.. الآن هناك صوت واحد يصرخ.. لكنه سكن هو الآخر بعد صوت الطرقة.

أخيراً جاء.
***
جثة.. إثنان.. ثلاثة.. ثلاث جثث مهشمة الرأس، كان يجرهم على الأرض، الواحد تلو الآخر، ويلقيهم بالقرب مني.. دمائهم ترسم خطوطاً حمراء على الأرض، وتصنع دائرة حمراء كبيرة حولهم.. أحدهم يرتدي حُله سوداء، والآخر يرتدي سروال جينز وتيشرت أبيض اللون.. والأخير كان يرتدي جلباب ممزق، يبدو أقرب لرداء المتسولين..

أما هو، فكان أصلع الرأس، يرتدي سروال أسود قماشي، وتيشرت بلا أكمام، يُبرز عضلات جسدة.. غادر ثانيةً، ثم عاد وهو يحمل مطرقة صغيرة، مغطاة بالدماء، والتي يبدو أنه كان يهشم رؤوسهم بها..

-"لاتخف.. لن تشعر بأي شيء."

هكذا قال، وهو يمسح مطرقته من آثار الدماء العالقه بها.. لن أشعر بشيء.. نعم، وكأن هذا يهمني. من أنا؟ لايهم، مايهم الآن، هو: ماذا أفعل في ورشة تصليح السيارات القديمة، جالساً على مِقعد خشبي، ويدي مكبله وراء ظهري، والدماء تنزف من كل مكان في وجهي.

يبدو أنه انتهى من تنظيف مطرقته الصغيرة، وهاهو يلتفت لي، ويتقدم نحوي ببطئ، وثقه.. لماذا لا، وقد نجح في تكبيل من كان يظن أنه لن ينجح في الإمساك به أبداً؟ يتقدم نحوي ببطئ غريب، وكأنه يثق في أن كل وقت الدنيا معه.. حسناً، أنا لن أذهب لأي مكان، ولكن المشكلة؛ هي أنني مللت بعض الشيء.. أريد حك أنفي أيضاً.. هاهو يقف أمامي مباشرةً.. يبصق على يساره، حيث تكومت 3 جثث؛ لأشخاص كانوا حتماً يأملون في يوماً آخر، يحتسون فيه قهوتهم الصباحية، ويداعبون فيه أبنائهم.. ينظر لي، وأنا أرسم على وجهي ملامح الشخص الغير مبالي بأي شيء.. حسناً هذه حقيقة، فأنا لا أبالي لو احترق العالم الآن.. يرفع يده اليمنى التي تمسك بالمطرقة؛ ليهوى بها على رأسي.. في اللحظة التالية كان ينظر لمقعد خشبي فارغ، وأربطة تقيد الفراغ..

أعشق هذه اللحظة، حيث يبدون كالبلهاء.. أطفال فقدوا أيدي أمهاتهم في الزحام.. من وراءه قلت:

-"هيه، أنت.. هل تعرف لعبة (الآن تراه- الآن لا تراه)؟."

نظر وراءه بسرعة، فلم يجدني؛ لأنني وقفت بجانب المقعد الخشبي هذه المرة، وأسندت ساقي اليمنى عليه..

-"أنا من ابتكر هذه اللعبة."

كان يحدق في الفراغ، قبل أن يلتفت لي ثانيةً، ولكن هذه المرة لم أذهب لأي مكان، وهو أيضاً لم يضع وقته في الوقوف مدهوشاً، والتفكير في إجابة منطقية لِمَ يحدث؛ لأنه رفع مطرقته بسرعة، وهمّ لتهشيم رأسي..

حسناً، لم يعد هذا ممتعاً على أية حال.. أخرجت من جيبي حبيبتي اللامعة، ذات المقبض الفضي، والنصل الحاد، ثم تلاشيت سريعاً، ووقفت وراءه.. وقبل أن يلحظ أي شيء، أتممت الأمر.. كان ملقى على الأرض بالقرب من ضحاياه الجدد، ودماءه تصنع دائرة حمراء حوله.. البائس، ظن أنه نجح أخيراً في الإمساك بـ...

من أنا ثانيةً؟.


ظننت هذا واضحاً.. اسمي هو (إمام)، وأعمل في دار (الخلود) لرعاية المسنين.. وأشعر بالملل.
***
-"الوغد.. يبدو أنه كان ينوي أن يأكلهم."


لا أعرف كيف يمكنك أن تصيح بصوت منخفض، لكني فعلت.. كنت في الغرفة التي كان يهشم رؤوس ضحاياه بها.. مقاعد خشبية، خطاف معلق في عدد من السلاسل تتدلى من السقف، منضدة حديديه تتراص عليها أدوات، يبدو أنه كان يستخدمها للسلخ والتقطيع.. وماهذا؟ منضدة خشبية من التي يستخدمها الجزارين لتقطيع لحومهم! هذا بجانب الدماء التي تغرق الحوائط بالطبع.. إنها غرفة مجهزة تماماً، لكن للتعامل مع الخراف، وليس البشر.. 


خرجت من الغرفة، وتوجهت للبقعة التي نحرت فيها عنقه.. هناك مايدور بذهني، وأريد تأكيده.. انحنيت أتفحص جسده.. فتحت فمه؛ لأفاجأ بصفين من الأسنان، التي تشبه أسنان القرش.. قلبته على وجهه؛ لأجد ماكنت أنتظره.


إنه من جماعة الغيلان.
***
ذلك الختم المميز المطبوع على رقبته من الخلف يؤكد ذلك.. هل كان يعرف بشأني، أم أنه اختطفني كأي شخص عادي يفعل معه ذلك؟؟ ولماذا لم أكن في الغرفة مع من ماتوا؟ لماذا أتى بجثثهم أمامي؟ هل كان يخبرني بمصيري؟ لو عرفت جماعة الغيلان بي.. يبدو أنها ستكون أيام طويلة ومرهقه..


وقفت، فرأيت الثلاثة الذين ماتوا منذ قليل، يقفون بالقرب من جثثهم.. ينظرون لي.. حزن، أم عتاب؟ كان يمكنني إنقاذهم، لكن يبدو أنني استغرقت أطول من اللازم في التساؤلات، عن "ماذا حدث"، و"كيف حدث".. وقفت بالقرب منهم وقلت:


-"لا أعرف ماذا أقول لكم، لكن أتمنى أن تسامحوني.. ماسيحدث، هو أنكم ستبقون هنا، حتى يأتي من يصطحبكم، إلى مكانٍ لا أعرفه؛ لذا لا تسألوني "إلى أين".. لو تأخر قليلاً، لا تفزعوا، ولاتسمحوا لأعصابكم بالإنفلات؛ لأنه عندما تتعصبون، سوف تحدث أشياء غير لطيفة، ومن شأنها أن تجذب الناس والأقاويل، ونحن لانريد ذلك بالطبع.."


دهشة، عدم فهم، وعدم استيعاب للأمر، حيرة، وربما غباء.. كيف تفسر لأحدهم أنه مات؟ 


-"سأغادر الآن؛ لأن بقائي خطر علي."


ثم تركتهم لحيرتهم.
***
في الخارج وجدت الحافلة، التي نقلني بها إلى هنا، والتي يبدو أنه يستخدمها؛ لخداع الناس في الأوقات المتأخرة من الليل.. هكذا كان يحصل على وجبته اليومية.. الجروح تملئ وجهي، والدماء تغرق قميصي.. أرجو ألا يسألني أحدهم عن الأمر.لا أعتقد أن هناك مجالاً للوقوف على المحطة وانتظار الحافلة، بهذا الشكل؛ لذا سأضطر لفعل ما لا أحب استخدامه كثيراً..


لو رآني أحدهم، أقف في وسط الشارع، ثم في اللحظة التاليه أختفي، وأتبدد كدخان السيجار.. 


سيجن حتماً.
***
أمام المرآة، داخل المرحاض، في منزلي الحبيب.. أقف لأعالج جروحي، التي سببها هذا الغول.. أجهل لماذا ضربني، أثناء إغمائتي الصغيرة.. من المفترض أنه لايحمل أي ضغينة تجاه من يصطادهم للأكل، وهذا هو مايُشعل الشك في نفسي أكثر.. كان يعلم من أنا إذن، وما أستطيع فعله.. فرغت من تضميد جروحي، وارتديت ملابس نظيفة، وخرجت لأجلس في شرفة البيت.
***
أجلس على مقعد صُنع من الخوص، داخل الشرفة، وأمامي كوب الشاي ذو الأبخرة الساحرة.. أجلس، لأسترجع كل ماحدث أثناء اليوم.. لماذا كان السيد (رأفت) حزيناً؟ ماذا كان يملك؟ الغريب أن تلك الأسئله، هي ماكان يدور بذهني، أكثر من تساؤلاتي حول الغول، آكل لحوم البشر، الذي قتلته منذ قليل.. حقاً: ماذا كان يملك؟!.


الغريب أنني تذكرت الآن، ماذا كان يملك السيد (رأفت).. لعب الشطرنج مع السيد (رافع)، وضحكهُ مع السيدة (عايدة).. قهوته الصباحية، التي كان يطلبها بنفسه من (عبير) عاملة المطبخ، وقراءة صحيفة الصباح.. مسلسل الثامنة والربع، والعيون التي تتعلق بشاشة التليفزيون، عندما يُعرض فيلم أجنبي جيد.. 


وقصصي الخيالية التي كنت أحكيها له.. كلها أشياء صغيرة، بسيطة، ولكن يبدو أنه كان يحيا من أجلها، أو هي من كانت السبب في جعله حياً.. هو لم يكن يدير شركة كبيره، ولم يكن يقف أمام القضاة في المحاكم، مثل الماضي.. أبناءه تركوه في الدار، ولم يعودوا لزيارته ثانيةً.. كلها أشياء لم يكن يملكها، لكنه كان يحيا بأشياءه الصغيرة، التي  تنجح في رسم الإبتسامة على وجهه ذو التجاعيد..

أنا.. ماذا أملك؟ هذا سؤال، يجب أن أعثر له على إجابه..

أو أخلق إجابة له.


18 مارس، 2012

يُتبع>>>
***
من هم جماعة الغيلان؟ من هو (إمام) حقاً؟ وكيف يستطيع فعل مايفعل؟ هل يجب أن نجد مايدفعنا للحياة؟ أم أننا نستطيع أن نحيا وحسب؟ وهل سيجد (إمام) دافعه؟ 

ماذا سيواجه ثانيةً؟ وهل هناك أكثر من جماعة يسمون أنفسهم (الغيلان)، ويأكلون لحوم البشر؟ وأشباح تنتظر من يخبرها أن تبقى في مكانها وتهدأ؟

ومديرة تشبه (فردوس عبد الحميد)؟!

كلها أسئله، لن أستطيع الإجابه عنها الآن؛ لأنني لا أعرف!.

مصطفى اليماني


التعليقات : 2

غير معرف

سلام عليكم
اسلوب متماسك والاحداث تشدك ، كل سطر يجبرك علي الركض فوقه لتلحق بالسطر التالي، أنا متابعة جيدة لمدونتك كانت بدايتي معها عندما قرات ردك علي مقال د.احمد واحترمت شجاعتك ، مع متابعتي لما تكتب استطعت ان آري - وبوضوح - بصمة د.احمد ، موفق بإذن الله وبانتظار المزيد

مصطفى اليماني

@غير معرف
تعليق يجعلني أكثر تمسكاً باستكمال الرواية.. لا أعرف ماذا أقول، سوى: أنه التعليق الذي يتمناه كل كاتب بالتأكيد..

شكراً لكِ، وانتظرى المزيد بإذن الله..

تحياتي ومحبتي.

إرسال تعليق


أترك تعليق أو اضغط (Like) إذا أعجبك ما قرأته، وإذا لم ينل إعجابك، أخبرني: لماذا؟..
يمكنك الإشتراك عن طريق البريد الإلكتروني -أسفل صندوق التعليقات- لمتابعة الردود، وأرجو عدم وضع أي روابط دعائية في التعليقات.