| 0 comments ]

 بلا حواس





يحاول أن يصرخ, ولكن صوته لم يخرج.. يحاول أن يرى, ولكنه لم يبصر.. ينهض ليتحسس الأشياء من حوله فتهوى يده لتلمس الفراغ.. سجن؟.. لا يذكر أنهم سجنوه.. لابد أنهم سلبوه حواسه, ولكنه لا يذكر أنهم فعلوا.. ما الذي يحدث؟.. يشعر بألم في مقدمة رأسه؛ كأن أحدهم قد أتى بجمرة مُشتعِله ووضعها داخلها.. يصرخ, ولكن صوته لم يخرج.. حتى الألم لا يستطيع ممارسته.. ما الذي حدث؟.. يحاول تذكر ما حدث؛ كأن عقله يخاف إخراج الذكرى من داخله.. ما الذي حدث؟.
***
الليل يتشابه, ولكن ليل المقابر يختلف

هكذا خرجت من دارك يا (وليد) لا يعرف أحد ماذا تنوي, ولا تعرف أنت ماذا تنوي, ولكنك خرجت.. لماذا اخترت الليل كي تخرج؟.. لماذا انتظرت ذلك الوليد الأسود الفاحم الأبكم؟.. لابد أنك شردت بذهنك كثيراً قبلها, ولابد أن عيناك زرفتا الكثير من الدمع قبلها.. كل هذا, ومع ذلك خرجت.. أستوقفك أخاك؛ ليسألك عن الدافع وراء مغادرتك المنزل في تلك الساعة المُتأخرة من الليل, ولكنك لم تجبه.. -فقط- غادرت.. خُطى بطيئه تلك التي مشيت بها.. ذلك المعطف الأسود اللامع الذي تعشق ارتداءه يتألق تحت أضواء عواميد الإنارة الليليه.. توقفت قليلاً أمام كُشك السجائر؛ لتبتاع سيجارة.. سيجارة واحدة فقط.. لم تدخِن من قبل, وإن نويت التحول إل مُدخِن فلما سيجارة واحدة فقط؟.. لم ترد على سؤال ذلك الشاب الذي رآك, وقد وضعت السيجارة في فمك ولم توقدها.. سألك:
- "تولّع يا أخ"؟.

لتهز رأسك بالموافقه.. مددت فمك إلى سيجارته الموقده, وأخذت نفس عميق كما كنت تراهم يفعلون.. هززت رأسك له ثانيةً كعلامة على الإمتنان, ثم تابعت السير مرة أخرى.. لم تكن المقابر بعيده, ولكن الطريق بدا كأنه لن ينتهي.. لم تذهب إليها سوى مرة واحدة عندما توفى ذلك الرجل الذي لا تذكر اسمه, ولكنه كان صديقاً لوالدك.. يومها قال والدك: "تعالى معانا.. لازم تبقى راجل وتتعلم تعمل الواجب زي الرجاله".. وقتها وافقت على مضض.. تماماً كما كانت.. نفس شواهد القبور الكئيبه مُنفِرة المنظر.. كيف يموت الناس, وهم يعرفون أنهم سيُدفنون في مكانٍ كهذا؟.. كانت السيجارة قد انتهت.. ألقيتها من فمك, ثُم تأكدت من أن أحداً لا يراك ودخلت.. من الجيد أنك كنت تحمل المال وقتها.. (التُربي) كان يحتاج له بالتأكيد حتى يقتنع ويترك لك المكان قليلاً بحِجة (الذكريات إللي نفسك تفتكرها).. وقفت قليلاً, وتجولت بعيناك في المكان.. نعم.. هذه هي المقبرة المنشودة.. لم يكن صعباً فتح الباب الحديدي الذي يحوي خلفه المقبرة, (التُربي) أعطاك مفاتيحه بعدما قبض ماله.. هذه هي المقبرة.. كامنه, ساكنه.. من الغريب أن تتواجد في مكان يحوي الموت ذاته بداخله.. بمساعدة العتله الحديدية أزحت الباب الحجري الذي يغطي فتحة الدخول.. أستخدمت الدرج الحجري؛ للنزول إلى غرفة الدفن حيث يكمن الموتى.. مظلم للغاية هذا المكان, ولكن لمبة الجاز التي أعطاها لك (التُربي) ساعدتك على الرؤية قليلاً.. هو لم يأخذ الكثير من المال؛ ليتركك بلا ضوء هنا.. حركت يدك المُمسِكه بملبة الجاز لتكتشف المكان.. هاهي.. في المنتصف تماماً.. توجهت نحوها, وتركت لمبة الجاز على الأرض, ثم بدأت تخلع ملابسك.. المِعطف الأسود, التيشيرت الأسود, الحذاء الأسود.. البنطال.. الملابس الداخليه.. أنت تقف عارياً الآن.. ركعت على ركبتيك, ومددت يدك نحوها كاشفاً كفنها الأبيض عنها.. ذلك الوجه الملائكي الحنون.. الشعر الحريري الذي كنت تغني له (والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا).. الملامح الرقيقة, وتلك الإبتسامة التي لم تفارق وجهها حتى بعد الموت.. ظللت تسحب الكفن لأسفل كاشفاً عن باقي الجسد.. الصدر, والبطن, و... كل شيء.. مددت يدك لتزيح خصلات شعرها عن عيناها, ثم اعتدلت؛ لتصبح في مواجهتها.. قارب جسدك على ملامسة جسدها.. تتذكر الماضي.. تتذكر الحب الذي كان يربط بينكما.. تتذكر زواجها من ذلك الرجل الذي لم تحبه يوماً.. تركتك؛ لأنك مثل غيرك بلا مال, أو عمل.. أتت تلك الحادثة يوم زفافها؛ لتفرق بينها وزوجها, ولكنك الآن تجمع بينك وبينها من جديد.. تسمع تلك الأصوات تقترب منك في ظلام المقبرة.. تصغي السمع جيداً.. لا يهم.. يتلامس جسدك وجسدها معاً في التحام يعيد الحب وذكرياته في ذاكرتك.. لم تشعر بنفسك بعدها.. ما الذي حدث؟.
***
هذا هو ما حدث.. لقد تذكر ما حدث, ولكن ما الذي فعل به هذا.. 
- "حبيبي".

الصوت.. صوتها.. تقترب منه.. تحمل لبمة الجاز لترى جيداً.. على ضوء اللمبه يرى العديد منهم يمدون أيديهم نحوه.. أطراف متآكله, وأجساد مُتعفنه, وأعين متساقطة.. يصرخ, ولكن صوته لم يخرج.. فقط يسمعها هي.. يسمعها وهي تقول:
- "حبيبي.. لن يفرقنا أحد الآن.. سنكون معاً للأبد.. للأبد".

يخفت ضوء اللمبه تدريجياً مع اقتراب الأيدي المتآكله منه.. يحاول أن يصرخ صرخته الأخيره, ولكنها لم تصدر.



تمت

مصطفى اليماني


التعليقات : 0

إرسال تعليق


أترك تعليق أو اضغط (Like) إذا أعجبك ما قرأته، وإذا لم ينل إعجابك، أخبرني: لماذا؟..
يمكنك الإشتراك عن طريق البريد الإلكتروني -أسفل صندوق التعليقات- لمتابعة الردود، وأرجو عدم وضع أي روابط دعائية في التعليقات.