قبل أعوام من الزمن الحالي، وأمام عيونٍ كانت مدهوشة في ذلك الوقت، حدثت الحكاية التي تناقلتها أجيال، ووثقتها الصحف وقنوات التلفزيون، وكانت الجدات تحكيها للأطفال قرب المدفئة وقبل النوم...
لقد سبقت السلحفاة الأرنب.
كانت الغابة وقتها؛ لاتزال محتفظه برونقها، ولمعانها، وكانت الشمس تشرق كل يوم على تلك الجنة التي تسكنها حيوانات من كل الأنواع، أسود، وضباع، وفيلة، وزرافات.. وبالطبع سلاحف وأرانب.. كل شيء.. اللون الأخضر كان في كل مكان، ولم يكن البشر وقتها يعلمون بوجود هذا المكان.. حتى حدثت المسابقة الشهيرة؛ التي حفظها الزمان، وسبقت السلحفاة البطيئة، الأنب السريع، ومالم تكن تعلم عنه الحيوانات، وماغفلوا عنه وهم مستغرقين في الإحتفال بالسلحفاة المعجزة التي هزمت الأرنب؛ هو أن البشر كانوا قريبين..
مخيم صغير للأطفال، كان متمركز قرب السباق، غادرته فتاة بعدما أخذت إذن معلمها؛ لتقضي حاجتها.. وكعادة الفتيات، ذهبت بعيداً، بعيداً، وتعمقت كثيراً لتفعل ذلك؛ خشية من الأولاد المتلصصين، الذين يحاولون دائماً النظر تحت تنورتها القصيرة الوردية.. مشت بين الأشجار، وخطت على الأرض الخضراء والفروع الصغيرة الساقطة من الأعالي.. وفي مكان مناسب رفعت تنورتها وهمّت لتفعل ذلك؛ حتى سمعت الأصوات.. أصوات رفيعة وحادة، ومختلفة.. نهضت بتردد، وسارت بخفة، وبيديها أزاحت أوراق الشجر والأغصان الرفيعة المتشابكة.. ورأت مارأته.
في اليوم التالي، فتح الناس عيونهم على صحفٍ؛ تحمل خبراً غريباً وصورة أغرب.. كان الخبر يقول:
"مخيم للأطفال يكتشف غابة للحيوانات الناطقة، والمعلم الذي التقط الصورة يقول: أنا لا أهذي، وبوسعي اقتيادكم للمكان."
ومع شروق اليوم الذي يلي الصورة والأخبار، فتحت الغابة عيونها على العشرات من بني البشر، كلهم يريدون التقاط الصور، والتسجيل بالكاميرات، كانوا منتشرين في كل مكان، يدقون على الجحور، ويقرعون جذوع الأشجار.. بعض الحيوانات كان ودوداً، طيباً، ولم يخف من بني البشر؛ فتقرب منهم وتركهم يتحسسونه، ويربتون على رأسه، ويحملونه.. أما البعض الآخر، فحاول الإختفاء، وابتعد قدر الإمكان؛ وهذا بسبب حكايات قديمة، كانوا يسمعونها من أجدادهم الكبار.. حكايات عن أن البشر أشرار، يقتلون الحيوانات، ويقتلعون رؤوسهم، ويسلخون جلدهم، وإن تركوهم أحياء، فهم يحبسونهم في أقفاص، ويخربون غابتهم وبيوتهم. الحيوانات الطيبة لم تعطي للتاريخ أهمية، وتمادت بأن وقفت على اثنين ومشت مثل البشر، وتحدثت معهم، عن الأخبار والأسرار، حتى وصلوا لما حدث في السباق، وتحمسوا وحكوا كل شيء، ومن بينهم ظهرت السلحفاة الشهيرة تمشي على قدمين، وتبتسم بفخر؛ قائلة:
-"نعم، أنا السلحفاة التي سبقت الأرنب."
أطلق البشر صيحات الإعجاب والإنبهار، وهللوا فور سماعهم تلك الأخبار، وسمع الرئيس ذلك من مساعديه؛ فقرر الذهاب بنفسه ومقابلة السلحفاة التاريخية، وهناك، قرر بداية عصر جديد من السلام مع بني الحيوان، واصطحب السلحفاة معه، إلى قصره؛ لتقيم هناك، ويستفيد العالم من خبراتها.. سوف تكون سفيرة الحيوانات في عالم البشر.
***
الزمن: الآن/ الوقت: الليل/ المكان: تحت الأرض، جحر صغير.
وحيداً، داخل جحره، يعطي ظهره للباب، وعلى ضوء الشمعة المعلقة على الجدار، نرى فراءه الأبيض المتسخ، والندوب التي تغطي جسده. في ركن الجحر، هناك بعضاً من أوراق الخس، وبقايا جزرة، أماهو فكان جالساً على مقعد صغير، يكتب في دفتر، على جذع شجرة قصير:
"كم من أعوامٍ مرت على النهاية؟ لم أعد أستطيع العد، ذاكرتي أصبحت أوهن، أصابها العجز والمرض هي الأخرى، مثل كل شيء.. أنا أجلس وحدي الآن، داخل جحر ليس جحري، والليل المظلم، والهدوء المقلق، هما رفيقي الوحيدين.. ولا أعرف لماذا أدون الكلمات.. أعتقد أنها إحدى العادات التي اكتسبناها من الغزاة كما أدعوهم، وهي ليست عادة سيئة جداً، عندما تكون وحيداً، وجريحاً. لازلت أذكر كل ماحدث بعد النهاية؛ كأنه يحدث أمام عيني.. عيني الوحيدة السليمة، الأخرى فقدتها في المعركة الأخيرة.. أما ماقبل النهاية، فلا أذكر منه سوى عدة صور ضبابية؛ كأنه قطع زجاج متكسر.. أحاول استرجاع الأيام الجميلة، فلا أستطيع.. أيام كنا ملوك الغابة، وأسيادها، والآمرين الناهين الوحيدين بها.. أيام الطعام اللذيذ الوافر، والصحبة الجيدة، وليالي الحفلات الصاخبة.. ياروح الغابة، أي جحيم هذا؛ الذي يمحي المكان وذكرياته؟ على كل حال، تكفي ذكريات النهاية ومابعدها؛ لتذكرني بمافقدناه.. السباق، خسارتي، فوز السلحفاة، فرح الحيوانات بالفائز، وإهمالي كأني لم أحقق انتصارات كثيرة من قبل، ولم أكن أكبر عدّاء.. أذكر ليلة الإحتفال بالسلحفاة جيداً، وأذكر بقائي وحيداً بلا رفقاء، مثلما أنا الآن.. أصوات الإحتفالات ونفخ الأبواق لاتفارق أذني.. وتلك الفتاة اللعينة، التي بدأت كل شيء، كانت أول من ألقى نظرة على عالمنا، وكانت من فتح الباب لبقية جنسها.. رسمت لها ألف صورة، وتخيلت أنني أهشم رأسها بحجر، وألتهم عينيها التي رأت، وأقتلع حنجرتها التي صاحت يوم اتطلعت علينا أول مرة..
ياروح الغابة؛ أمامن نهاية لعذابي الطويل؟."
***
يوم آخر، نفس المكان، والوقت، ونفس الفعل:
"إنني أحلم.. أحلم كل يوم، ولا أعرف إن كانت أحلامي هبةً أم عقاباً.. أهو عقاباً لأننا لم نقوى على الدفاع عنها يوم أتت النهاية؟ كنا أوهن من أن نفعل، حتى مع أحجام بعضنا الضخمة، وشراسة وقوة آخرين، لم نستطع أن نصمد.. الفرار، والموت، وصيحات العذاب، والنيران، وصوت الوحش الكهربائي الضخم الذي يدعونه (منشار).. تبدأ أحلامي بشجرة "روح الغابة"، التي كنانتجمع حولها مع كل غروب.. كنا كثيرين وقتها، وكانت الشجرة تجبرنا على احترام بعضنا.. حتى الأسود ذات الهيبة، والضباع ذات الأنياب، والذئاب ذات الدهاء، كل هؤلاء كانوا يحترمونها، ويبجلونها، ولأجلها كانوا يبتعدون عنا ونسلم منهم.. منظرها الرائع وقت الغروب، والشمس تبدو كأنها تاج فوق رأسها، غناء الطيور حولها، ووقوفنا في صمتٍ واحترام أمامها.. لكن هذا لايدوم، ينتهي الحلم، بقذيفة مشتعلة، تضرب روح الغابة، وتحرقها.. تتساقط أغصانها على الأرض، وتحيل الأخضر إلى بساط من نار..
لابد أنه العقاب.. تكرار ذكرى النهاية، عقاب بالتأكيد."
***
يوم آخر، نفس المكان، والوقت، ونفس الفعل:
"المكان هنا لايروقني.. أشتاق لجحري القديم، الواسع المريح، ذو الرائحة العطرة.. لا أعرف لمن هذا الجحر الذي أسكن فيه، لكن لابد أنه يخص أحد الفئران؛ بما أن رائحته عفنة.. فئران البشر، المحملة بالروائح والأمراض.. فوق الأرض تقع نهاية الغابة، التي هي خليط من مخلفات البشر، وأطلال غابتنا القديمة.. أحصل على طعامي من بين المخلفات، وأتصفح الصحف القديمة؛ هكذا أعرف الأخبار.. السلحفاة الآن تسكن في بيت الحاكم الكبير، وتتمتع بسلطات ونفوذ.. تقابل حكام العالم، تصافحهم، وتأكل معهم.. ويبدو أنها تنشر مذكراتها على حلقات: "عشت حياة مؤلمة قبل فوزي بالسباق، وكنت منبوذة، وكان الآخرين يسبونني ويهزأوا بي لبطئي الشديد. الأرنب كان مغروراً، واستحق الهزيمة. روح الغابة خرافة، لكني لم أكن أجرؤ على قول هذا في الماضي؛ حتى لاتفتك بي الحيوانات.. بمانفعتني روح الغابة؛ عندما كنت أنال العقاب والعذاب يومياً من أبناء غابتي؛ فقط لأنني أبطأ منهم؟" هكذا تقول السلحفاة في مذكراتها.. ياروح الغابة، إنها تكفر بكِ، وتتخلى عنكِ، فتخلي عنها، وانتقمي لنا منها."
***
يوم آخر، نفس المكان، والوقت، ونفس الفعل:
"ياروح الغابة، أعتقد أنني وصلت أخيراً؛ لسبب بقائي حياً حتى الآن.. كنت أقول أن الموت رحمة لي، وكنت أتمنى أن ألحق بمن سبقوني، وأحظى بمكان لي بجانبكِ.. كل رفاق المقاومة رحلوا، ولم يبق منهم سواي، لكن بقائي كان لسبب كما كنت أؤمن.. سامحيني؛ لأني شككت في بعض الأيام."
***
كان التجمع كبيراً في ذلك اليوم أمام منزل الحاكم الكبير، كاميرات التلفزيون، وأقلام الصحفيين، لا تكف عن البحث عن ثغرة للتسلل، والفوز بسبق صحفي كبير.. الناس من كل الأعمار، تبكي وتلطم خدها، وتتساقط منهارة، فيعمل المسعفين.. في داخل المنزل، كان المشهد لايختلف كثيراً، فقط المزيد من ضبط النفس.. الأقدام كثيرة، لكنها جميعاً تصب في اتجاه واحد.. حجرة السلحفاة التاريخية العظيمة..
الجدران تتزين بالعديد من الأشياء.. بساط كبير نُسج عليه صورة السلحفاة، بوسترات لأفلام قامت ببطولتها السلحفاة، وأغلفة لكتب قامت بكتابتها السلحفاة.. الكثير من الصور مع ممثلين مشهورين، وحكام، وسياسيين.. أشياء كثيرة، لكن الأطباء والمسؤولين، ورجال الشرطة، كانوا يغطون أغلبها بأجسادهم.. كانوا كثيرين، تجمعوا في دائرة حول بقعة واحدة، وبدا كأن المشهد ثابت.. داخل الدائرة كانت السلحفاة ممددة على الأرض، ذات لون شاحب يميل للزرقة، لسانها يتدلى خارج فمها، الذي تتصاعد منه الرغوة، ترتدي ملابس نوم، فاقعة اللون، من التي يرتديها البشر، وبجانبها سيدة متوسطة العمر، بملابس قليله، شفافة.. الإثنان متمددان على الأرض، ساكنان في أوضاع غريبة، وحولهما الرجال.
***
عناوين الأخبار:
"الكارثة التي حطمت العالم، بعدما أعطته الأمل."، "موت السلحفاة التاريخية العظيمة في ظروف غامضة"، "لازلنا في انتظار تقرير الطب الشرعي؛ لمعرفة سبب الوفاة، ونتيجة تحقيقات الشرطة؛ للقبض على المجرمين الجناة"، "والدة (سيرين) تقول: لم تترك ابنتي السلحفاة، منذ رأتها أول مرة في المخيم، عندما كانت طفلة.. لماذا تلقى مثل هذه النهاية، لماذا؟؟."
***
من مذكرات الأرنب في وقتٍ سابق:
"الليلة هي الليلة المختارة ياروح الغابة.. أعرف هذا لأنني أشعر به في الجو.. في الهواء.. الليلة سأنفذ مخطتي للإنتقام لنا، وآخذ بثأري ممن بدأ كل شيء، ولم يعمل على إيقاف شيء.. أخيراً عرفت كيف أستطيع التخلص من السلحفاة، وتخليص عالمنا من شرها.. ربما تأتي أجيال جديدة؛ تنشد العيش في أمان، وتنجح في ذلك حقاً، ربما يتعلموا من تاريخنا، وماضينا الأسود، عسى ألا يكرروا ماوقعنا فيه من خطأ؛ فأدى إلى نهايتنا وفنائنا..
في أحد الصحف القديمة، وجدت هذا الخبر، الذي يقول أن السلحفاة اللعينة، تقضي لياليها مع الطفلة صاحبة الإكتشاف، تلك التي لم تعد طفلة الآن.. أعتقد أنها صاحبة أول علاقة جنسية مع سلحفاة أيضاً! لكن هذا لايهم، الهام في الخبر؛ أنهما يتعشيان معاً كل ليلة.. أتعرفين الأكلة المفضلة لهما ياروح الغابة؟ إنها الأرانب! الملعونين يأكلون ماتبقى منا يومياً، يشووننا، ويحمروننا، ويسلقوننا.. حسناً، لاوقت للغضب الآن.. لقد وجدت ماكنت أبحث عنه، في مخلفات البشر، فوق سطح الأرض.. سأذهب الآن، وأنا أتمنى أن تباركي خطواتي، وتساعديني على النجاح.. سوف أشرب السم الآن، وأذهب لمنزل الحاكم.. سأصرخ، لاعناً السلحفاة وحبيبتها، حتى تخرج لي.. أنا متأكد أنها سترحب بأكلي، صحيح أن فرائي متسخ، وجسدي مليء بالندوب، ولدي عين تالفة، لكن هذا لن يوقفها..
فأنا الأرنب الذي سبقته."
13 إبريل، 2013
التعليقات : 2
تحفة فنية يا مصطفى
استاذ وربنا
محمد عبد العليم
الله يخليك يامحمد، تعليقك عزيز عليا أوي والله، نورت المدونة جامد ياحبي : )
إرسال تعليق
أترك تعليق أو اضغط (Like) إذا أعجبك ما قرأته، وإذا لم ينل إعجابك، أخبرني: لماذا؟..
يمكنك الإشتراك عن طريق البريد الإلكتروني -أسفل صندوق التعليقات- لمتابعة الردود، وأرجو عدم وضع أي روابط دعائية في التعليقات.