1
لم يكن لأهل حارتنا حديث إلا ودار حول البيت وسيدة البيت، لايطلع عليهم صبح إلا وهم يتسائلون: ترى، هل ينكشف السر اليوم؟ ولاتغيب شمس، قبل أن تتركهم محملين بخيبة الأمل، شاعرين أن اليوم خذلهم، لكنهم يعزون أنفسهم قائلين: ربما نعرف غداً.. ربما. أهل حارتنا.. يالهم من قوم! يتعلقون بالخرافة أكثر من تعلقهم بالحقيقة، إنهم لايفكرون في الأشياء الملموسة الواقعية، بقدر تفكرهم في الأشياء الغيبية الوهمية.. كيف ينبت الشجر العملاق من بذرة نكره، وكيف نولد نحن من نطفة أقل حجماً من بذر الأشجار، من أين تأتي الشمس وإلى أين تغيب، ومن أين تبدأ الشلالات وإلى أين تنتهي.. كلها أشياء لاتخطر على بالهم، ولو خطرت سيرددون: سبحان الله، والله نفسه لم يوجد الأشياء بتلك الكيفية؛ إلا لكي نتفكر فيها، لكن آفة أهل حارتنا الكسل.. سيحدثونك عن التكية وكراماتها، وعن المأذنة الملعونة وأصلها، وأساطير عن قوم عاشوا قبلنا، وصنعوا المعجزات، وذهبوا.. عاشور، شمس الدين، جلال.. لكن كل هذا لايساوى ذرة أمام انبهارهم بالبيت وسيدة البيت.. إنهم يتسائلون: من هي، وما أصلها، ولماذا لانراها، ترى ماشكلها.. أسئلة، تحمل بداخلها أسئلة، وعلامات استفهام تدور حول رؤوسهم إلى الأبد.. لكنهم كانوا يصبرون أنفسهم على أية حال، بحكايات لاتنتهي، يرجع أصلها؛ لمعرفة ضئيله، يبدو أن أكبرهم كان يملكها، بسبب معاصرته لزمن كان قريب من بدايات البيت وسيدة البيت، وكان يدعى الشيخ (جعفر)، رحمه الله، لكن حتى هذا الرجل لم يسلم من ألسنة الناس! لقد اعتاد الرجل الجلوس بعد صلاة المغرب، بين الناس، في المقهى الوحيد؛ يحكي لهم عن البيت وسيدة البيت، وبعد موته، تداول أهل حارتنا حكايات عن أن سيدة البيت قتلته قبل أن يكمل حكاياته عنها؛ وهذا لأن الرجل كان يجاهد السن ويعتصر ذاكرته كل يوم؛ ليخرج على الناس بحكاية جديده، ولابد أنه كان يضفي بعضاً من خياله على كل حال، لكنهم مقتنعون أنه كان قريباً من انتشال السر، من بقايا ذكرياته الميتة؛ لذلك قتلته.. حتى لاينكشف السر.
2
ومن الحكايات التي أجمع أهل حارتنا على أنها الأصل ولا أصل سواها للبيت وسيدة البيت؛ أنه كان هناك فتاة لاتعرف لها أهل ولانسب، ولامكان تأوى إليه، ولا مصدر رزق تطعم منه، فظلت تنتقل من حارة إلى زقاق، إلى أن وصلت لحارتنا، فلم يحتملها أحدهم وكانوا ينهرونها ويتجنبونها، فلجأت لمقابر الحارة، دامعة العينين، بثياب صارت وجلدها واحداً مع الزمن، ونعلين صارا جزءً من قدميها.. وهناك، عندما اختارت لنفسها بقعة تصلح للنوم، لم تسترح لأصوات سمعتها، ربما هي أصوات الكلاب، أو سكان المقابر، أو الميتين، واستقرت على أن تتوغل أكثر داخل الصحراء، التي صنعت لنفسها وسادة من رمالها، ونامت، لكن حدث مالم يكن يخطر على بال إنسان، عندما بللت دموعها تلة الرمل الصغيره.. أحست الفتاة بهزات خفيفة، فخافت وابتعدت، ومن بعيد وقفت تراقب البيت وهو يشق طريقه خارج الرمال؛ ليرقد على السطح. جذبها الضوء، وأصوات الملائكة، فتركت نفسها للسحر، ودخلت البيت؛ ليستقبلها الخدم بما لذ وطاب من الطعام، وأتواب الحرير، وماء الورد، وأناشيد العصافير.. ومن يومها صار للحارة سيد، سيدة البيت. في اليوم التالي، صحى الناس على أصوات الولولة، ووصلوا إلى نتيجة منطقية بعد دفن الموتى، هي: أن سيدة البيت انتقمت من كل من رفضوا الإحسان إليها. واستسلمت حارتنا لحكايات لا أصل لها عن اللعنات والإنتقام، وزمن الفتوات الجديد.
3
يقال أيضاً أن سيدة البيت اصطفت من بين الناس، من يصلح لخدمتها وتسيير أعمالها وإعلاء كلمتها بين أهل حارتنا، وكانت طريقة الإختيار عجيبة أخرى من عجائب البيت وسيدة البيت، حيث كان المختار من بين الناس، ينام، فيرى رؤية، لاتحمل أكثر من وجه سيدة البيت، فيستيقظ باكياً من حسن مارأى، ويترك ماله وحاله وامرأته وعياله؛ ليلحق بالبيت وسيدة البيت.. هم أربعة رجال، (خليفة)، و(حامد)، و(رحيم)، و(غانم)، ينشرون كل يوم رجالهم بين الناس لجمع الإتاوات، وفرض سيطرتهم على الحارة، وقهر فتوات الحارات الأخرى. أحياناً يتسائل البعض: وما حاجتها لجمع الإتاوه، طالما تنعم في بيتها بالسحر الذي يكفل لها حياة مثل الجنه؟ ويتبنى أحدهم خرافة أخرى؛ عن أن السحر زال عنها، عندما اختارت لنفسها الرفقة؛ لأن الوحده كانت من شروط السحر.. ولكن كيف يتحمل الناس الوحده؟ وأي رفقة أكثر من أن تتزوج المرأه؟
4
يقولون أن اسمه (صالح)، وكان صالحاً بالفعل، يملك محلاً لبيع العطارة، ودار كبيره قرب المحل. كان ينتظر الزفاف على عروسه، كريمة (عبد الكريم) تاجر القماش، عندما رأى رؤية هو الآخر.. يقول الناس، أنه لم يرى وجه سيدة البيت هذه المره، بل رأى جسدها كاملاً.. وكانت عاريه! ترك الرجل حياته، واختفى من الحارة؛ ليتزوج بسيدة البيت، وليرزقا بثلاثة فتيان وفتاة واحدة.. (عامر)، الذي يحب العمارة، و(عالم)، الذي يحب العلم والقراءة، و(عابد)، الذي يحب الذكر والصلاة والعباده، أما (علياء)، فكانت تحب الغناء. وكان الجميع يسيرون بين الناس، ينشرون أفكارهم، ويمسح الناس على أكتافهم؛ لنيل كراماتهم.
5
لم أستحسن يوماً جو حارتنا، المشرّب بخلاصة الخرافة، وعصارة الجهل، وينابيع الحكايات التي لا أصل لها، ولا نهاية.. عندما خرجت منها، وقضيت سنين في الأزهر، أقسمت على أن أعود بالعلم والخبرة الكافيه لإنارة عقولهم المظلمة، وقبل أن أترك الأزهر، أخبرني شيخي: هذه رسالتك، لكني أخشى ألا تفلح في حملها؛ لأنك لم تقضي سنين دراستك في فهم القرآن والحديث وعلمهما، بل كنت تحيا وكأن بينك وبين البيت وسيدة البيت ثأراً، لن تفلح في نيله؛ إلا بالقوة.. لكني أنصحك ياولدي بالإقناع والكلام، والإقتراب من الناس، ومخاطبتهم بلغتهم. لكن الكلام لن يأتي بنتيجة مع عقول ورثت الخرافة عن آبائها وجدودها، وتزرعها في أبنائها.. في هذا المناخ، تصبح كالذي يبشر بدين جديد، أو يدعو الناس للكفر بالله، كم من أيام قضيتها في محاولة إعلاء كلمة العقل، وكم من مرات سمعتهم يقولون: كفى، حذارى أن يسمعك أحدهم، آه، لو سمعك رجال (خليفة)، الأزهر خرب عقلك، وأصبحنا نحن المجانين وأنت العاقل الوحيد. التعقل لن يأتي بنتيجة مرضية مع أهل حارتنا، إنهم كالمجنون؛ يجب أن يتلقى ضربة على رأسه ليعود لرشده.. تعرية الخرافة هو الحل الوحيد؛ لتظهر الحقيقة بكل وساختها، وينكشف الناس أمام أنفسهم، ويقروا بجهلهم، ويعلنوا إيمانهم بالعقل والحق.
6
الليلة هي الليلة المنشودة، التي قضيت سنين دراستي في الإدخار من أجلها.. الليلة سيأتي (عطوة)، الفتوة القديم، أو الرجل الذي كان يسعى لأن يكون الفتوة، يأتي ومعه فتوات الحارات الأخرى، ورجالهم، في تحالف لم يشهد له تاريخ الحارات مثيل، إنهم أقوياء، وذوي عزيمة وإصرار، لكنهم لايملكون حسن التفكير، والتخطيط، لطالما ركز كلٍ منهم على عداوته مع الآخر، تاركين البيت وسيدة البيت ورجالها وزوجها وأبنائها يعبثون بهم، وبأعمالهم، وأرزاقهم.. لكني لم أكن هنا لأرشدهم، أنا الذي من أجل هدفي تحاملت على نفسي، وسرت بينهم، زرت أوكارهم، وجلست في غرزاتهم.. أعرف أن التحالف مع شر جديد إثم، ونكسة لحارتنا، لكنه على الأقل سيكون شر حقيقي، نراه، وفي استطاعتنا هزيمته، مثلما فعل (عاشور) الذي يحكون عنه، ويقولون أنه جمع الحرافيش، وهزم الفتوة. لن يكون صعباً عليهم إذن. الآن، لا أملك سوى الإنتظار.
7
كنت في انتظار الصباح؛ لأرى مع الناس حقيقة البيت الزائفة؛ الذي لايسكنه إلا الرجال، مجرد رجال عملوا على نشر الخرافة؛ ليجنوا ثمارها، لكن بدلاً من ذلك استيقظت حارتنا على مشهد جثث الفتوات الكبار ورجالهم، تفترش الصحراء أمام البيت وحوله، والكثير من النبابيت التي لم تجدي نفعاً بين يدي أصحابها.. وتسائلت عن الذي حدث، وأية قوى استطاعت الوقوف أمام جيش الفتوات هذا، ولماذا لم نسمع أصوات المعركة؟؟ أم أنهم لم يجدوا الوقت لرفع نبابيتهم عن الأرض؟ هكذا آمن الناس أكثر بالمعجزة والسحر، ولن أجرؤ بعدما حدث على الكلام عن البيت وسيدة البيت.. لن يتركوني حياً بعدها. أيتركون أحداً يسب الله في حضرتهم؟!
8
ولكن الحمد لله على أن أحداً لايعرف أنني كنت المخطط لما حدث، كنت سألقى مصير الفتوات بالتأكيد، أو الطرد من حارتنا على أقل تقدير.. وقلت أن مجيء الليل فرصة؛ لأريح عقلي الذي لم يتوقف عن القلق والتفكير، ونمت.. وفي منامي رأيت رؤيا، لم أرى وجه صاحبة البيت، ولا جسدها العاري.. بل رأيت البيت نفسه، بطابقيه، وأنواره، وسمعت أناشيده، وشعرت بالهواء من حوله.. وعندما كنت أسير مسرعاً نحو البيت، كنت أسمع الناس يقولون: معقول، مختار جديد، بعد كل هذا الزمان، ترى ماذا رأى؟؟؟ وحاول البعض إثنائي عن وجهتي؛ لاعتقادهم بأني كنت واعي لما أفعله، وذاهب بإرادتي، غير عالمين أنني كنت شبه مسلوب الإراده، وبالجزء الواعي الباقي من عقلي، لم أكن أحاول إثناء نفسي عن البيت، كنت أريد أن أعرف، الرؤى حقيقية، والقوى التي هزمت الفتوات، والخيط الغامض الذي يجرني للبيت.. وماذا أيضاً؟ ومن بعيد رأيت البيت، بالحراسة من حوله، والحديقة التي نبت زرعها وأشجارها في الرمال، كان الرجال على الجانبين كأنهم واقفين في انتظاري؛ لاستقبالي، توقفت قليلاً، وتأملت هيأتي، وأملت أنني ارتديت ملابس أفضل من ملابس النوم، لكن وقفتي لم تطل، أكملت سيري وأنا أسمع الأناشيد الغامضة تنبعث من البيت، وتغني معها الطيور، وتتراقص من أجلها الأشجار، كان الرجال على الجانبين ذوي مظهر مهيب، يدعو للإحترام، بجلابيبهم ولاساتهم ونبابيتهم المغروسة في الأرض كجذوع الشجر، ولما وصلت لباب البيت، انفتح، فهبت ريح طيبة محملة بالروائح الزكية، وقلت لقلبي صبراً، لئلا تفقد حياتك؛ نتيجة حماسك ودقاتك المتسارعة المتلهفة، الآن سنرى، سنطلع على السر الأعظم، ونرى النور، وبالداخل رأيت رجال السيدة الكبار، (خليفة)، و(حامد)، و(رحيم)، و(غانم)، وورائهم كان أبناء السيدة (عامر)، و(عابد)، و(عالم)، و(علياء)، وورائهم كان (صالح) زوج السيدة، وحولهم الخدم، حاملين صواني الطعام والشراب، وأتواب الحرير، وماء الورد، صوت الماء الجاري، يندمج مع صوت الأناشيد
وفي وسطهم كانت، جالسه فوق عرش كبير، بثياب الحرير البيضاء، ورائحة استطعت تمييزها؛ كأنها قصدت أنفي وعرفتني نفسها، وكان وجهها محاط بضوء أبيض، أو حجاب؛ لذا لم أستطع تبينه جيداً، لكني أحسست أنها تنظر لي، وتبتسم، وهي تقول:
-"أكنت تظن أنني لم أعرف؟."
فرددت:
-"لم أكن أؤمن."
-"والآن؟."
-"آمنت."
-"وماذا ترى أنك تستحق؟."
-"العفو، والرحمة، والعيش وسط البهجة والأناشيد، وتحت قدمي سيدة البيت."
وبدون أن يؤمروا، رأيت الجميع يفتح طريقاً بينهم، وسرت وسطهم، وسط رجال السيدة الأشداء، وأبناءها الحسان، ولفت نظري (علياء) تردد الأناشيد، وزيها الأحمر، المشجر بورود بنفسجية فاتحة اللون، وزوجها بملابسه البيضاء ولحيته العظيمة، إلى أن وصلت، إلا مالم يصله سوى قِله من الناس، وقتها شعرت أن قلبي ستنبت له جناحان، يخترق صدري ليطير بهما، ودمعت عيناي، لكني فكرت أن رؤياي لن تكون حسنه ودموع الفرح تملؤني، فتماسكت، إلى أن انزاح الحجاب وخف الضوء، ورأيت وجه سيدة البيت.. وقتها لم أكن أفكر إلا في شيء واحد: ماذا سأكون؟ السيدة لديها الخدم، والرجال، والزوج، والأبناء.. ماذا سأكون؟.
دوش وقت سحر از غصه نجاتم دارند
واندر آن ظـلـمت شـب آب حياتم دارند
واندر آن ظـلـمت شـب آب حياتم دارند
وفي وسطهم كانت، جالسه فوق عرش كبير، بثياب الحرير البيضاء، ورائحة استطعت تمييزها؛ كأنها قصدت أنفي وعرفتني نفسها، وكان وجهها محاط بضوء أبيض، أو حجاب؛ لذا لم أستطع تبينه جيداً، لكني أحسست أنها تنظر لي، وتبتسم، وهي تقول:
-"أكنت تظن أنني لم أعرف؟."
فرددت:
-"لم أكن أؤمن."
-"والآن؟."
-"آمنت."
-"وماذا ترى أنك تستحق؟."
-"العفو، والرحمة، والعيش وسط البهجة والأناشيد، وتحت قدمي سيدة البيت."
وبدون أن يؤمروا، رأيت الجميع يفتح طريقاً بينهم، وسرت وسطهم، وسط رجال السيدة الأشداء، وأبناءها الحسان، ولفت نظري (علياء) تردد الأناشيد، وزيها الأحمر، المشجر بورود بنفسجية فاتحة اللون، وزوجها بملابسه البيضاء ولحيته العظيمة، إلى أن وصلت، إلا مالم يصله سوى قِله من الناس، وقتها شعرت أن قلبي ستنبت له جناحان، يخترق صدري ليطير بهما، ودمعت عيناي، لكني فكرت أن رؤياي لن تكون حسنه ودموع الفرح تملؤني، فتماسكت، إلى أن انزاح الحجاب وخف الضوء، ورأيت وجه سيدة البيت.. وقتها لم أكن أفكر إلا في شيء واحد: ماذا سأكون؟ السيدة لديها الخدم، والرجال، والزوج، والأبناء.. ماذا سأكون؟.
20 يوليو، 2013
التعليقات : 0
إرسال تعليق
أترك تعليق أو اضغط (Like) إذا أعجبك ما قرأته، وإذا لم ينل إعجابك، أخبرني: لماذا؟..
يمكنك الإشتراك عن طريق البريد الإلكتروني -أسفل صندوق التعليقات- لمتابعة الردود، وأرجو عدم وضع أي روابط دعائية في التعليقات.