| 2 comments ]

اختفاء الفيل
قصة قصيرة لـ هاروكي موراكامي
ترجمة مصطفى اليماني

العنوان الأصلي للقصة: The elephant vanishes، أو: الفيل يختفي

عندما اختفى الفيل من بلدتنا، قرأت خبر اختفاءه في الصحيفة. أيقظني المنبه ذلك اليوم في السادسة والربع كالمعتاد. ذهبت إلى المطبخ، أعددت القهوة والتوست، أدرت الراديو، فتحت الصحيفة على طاولة المطبخ، وشرعت في الأكل والقراءة. أنا واحد من هؤلاء الذين يقرأون الصحيفة من البداية للنهاية، بالترتيب، لذا فقد استغرق الأمر وقتًا حتى أصل للمقال الذي يتحدث عن الفيل المختفي. كانت الصفحة الأولى مليئة بقصص البيانات الجغرافية والإحتكاك التجاري مع أمريكا، طالعت بعد ذلك الأنباء الوطنية، والسياسة الدولية، والإقتصاد، والرسائل المرسلة للمحرر، والمراجعات النقدية للكتب، وإعلانات العقارات، والتقارير الرياضية، وأخيرًا؛ الأخبار الإقليمية.

مقال الفيل كان القصة الرئيسية في القسم الإقليمي. لفت انتباهي العنوان الذي كُتِب بخطٍ أكبر من المعتاد: فيل مفقود في ضواحي طوكيو، وأسفله، بخطٍ أصغر: مخاوف المواطنين تتعاظم، والبعض يطالب بالتحقيق. كانت هناك صورة لرجال الشرطة وهم يفتشون بيت الفيل الفارغ، بدا أن هناك خطأ بالبيت وهي لايحوي الفيل بداخله. بدا أكبر مما يلزم، خاوٍ وفارغ، كوحش ضخم، يابس، اقتُلعت أحشائه.

درست كل سطر في المقال، بينما أتخلص من فِتات التوست. لوحظ غياب الفيل أول مرة في الثانية بعد ظهر أول البارحة الموافق 18 مايو، عند تسليم رجال من شركة الغداء المدرسي شحنتهم المعتادة من الطعام (غالبًا ما يأكل الفيل بقايا غداء الأطفال من المدرسة الإبتدائية المحلية). على الأرض كان يكمن القيد الحديدي الذي كان يقيد ساق الفيل الخلفية، ولايزال مغلقًا، كما لو أن الفيل انزلق منه. لم يكن الفيل وحده من فُقِد، كذلك اختفى حارسه، الرجل الذي كان مسؤولًا عن رعاية الفيل وتغذيته من البداية.

كان بعضًا من تلاميذ المدرسة الإبتدائية آخر من شاهد الفيل وحارسه -وفقًا للمقال- في وقتٍ ما بعد الخامسة من مساء اليوم السابق الموافق 17 مايو. كانوا يزورون بيت الفيل لرسم بعض الإسكتشات. وكان هؤلاء التلاميذ آخر من رأوا الفيل، كماتقول الصحيفة، منذ أغلق الحارس بوابة حظيرة الفيل، عندما انطلقت صفارة السادسة، معلنة انتهاء اليوم.

لم يكن هناك شيء غير عادي بشأن الفيل أو حارسه في هذا الوقت، وفقًا لشهادة التلاميذ. كان الفيل يقف في وسط الحظيرة كما اعتاد الوقوف دائمًا، يهزّ خرطومه من جانب لآخر أحيانًا، أو يحدق بعينيه المجعدتين. كان فيل عجوز بشع، تمثل له كل حركة جهدًا هائلًا؛ لدرجة أن الذين يروه للمرة الأولى، كانوا يخشوا أنه ربما ينهار في أي لحظة، لافظًا أنفاسه الأخيرة.

تبنّت بلدتنا الفيل قبل عام لسنه الطاعنة. عندما تسببت المشاكل المالية في إغلاق الحديقة الصغيرة في طرف البلدة، وجد تاجر للحيوانات البرية مكانًا للحيوانات الأخرى في حدائق بمختلف أنحاء البلاد. لكن يبدو أن كل الحدائق كان لديها الكثير من الفيلة، ولم تكن أيًا منهم مستعدة لاقتناء فيل واهن عجوز، يبدو كما لو أنه سيموت بأزمة قلبية في أي لحظة. وهكذا، بعدما رحلت صحبته، بقي الفيل وحيدًا في حديقة بالية، لما يقرب الأربعة أشهر، بلا أي نفع. ليس كما لوكان نافعًا في الماضي على أية حال.

جلب الفيل مشاكل جمة لكلٍ من الحديقة والبلدة. كانت الحديقة قد باعت أرضها لمطور عقارات يخطط لبناء ناطحة سحاب سكنية، وأصدرت البلدة التصاريح اللازمة بالفعل. طالما ظلت مشكلة الفيل بلاحل، كلما تضاعف ظن مطور العقارات أنه اشترى الهواء. ظل قتل الفيل أمر غير مطروح رغم ذلك. ربما كان القتل واردًا، لو كان سعدان عنكبوتي أو خفاش، لكن التستر على قتل فيل كان في غاية الصعوبة، ولو انكشف الأمر بعد ذلك، ستكون التداعيات هائلة. وهكذا، اجتمعت الأطراف المختلفة لمناقشة المسألة، وأعدوا اتفاقًا للتخلص من الفيل العجوز:

1. تمتلك المدينة الفيل دون أي تكلفة.
2. يوفر مطور العقارات قطعة أرض، دون مقابل، لإقامة الفيل.
3. يتحمل مُلّاك الحديقة السابقين مسؤولية دفع أجر الحارس.

كان لدي اهتمام خاص بمشكلة الفيل من البداية، وقد احتفظت بكل قصاصة وجدتها عن الموضوع، حتى أنني ذهبت لأستمع لمناقشات مجلس المدينة بشأن المسألة؛ لهذا أستطيع تقديم بيان كامل ودقيق لمجرى الأحداث. ولمّا كان تقريري مفصلًا إلى حدٍ ما، فقد اخترت وضعه هنا، في حالة وجود علاقة مباشرة بين مشكلة الفيل واختفاءه.

عندما انتهى العمدة من التفاوض بشأن الإتفاق -مع حكمه بتولي المدينة مسؤولية الفيل- برزت حركة مُعارِضة للإجراءات من داخل صفوف حزب المُعارَضة (والذي لم أكن أتصور وجوده حتى ذلك الحين)، وسألت العمدة: «لماذا يجب أن تمتلك البلدة الفيل؟»، وأثاروا النقاط التالية (آسف على تضمين كل هذه القوائم، لكني أستخدمها لجعل الأشياء أسهل للفهم):

1. مشكلة الفيل كانت أمرًا يخص مؤسسات خاصة -الحديقة ومطور العقارات، فلايوجد سبب لتصبح المدينة طرفًا في الأمر.
2. تكاليف الرعاية والتغذية سوف تكون مرتفعة للغاية.
3. ماذا ينوي العمدة أن يفعل حيال مشكلة الأمن؟
4. ما الفائدة التي ستعود على البلدة بامتلاكها الفيل؟

- «على البلدة عدد كبير من المسؤوليات يجب أن تعتني بها قبل أن تقحم نفسها في أعمال تربية الأفيال، مثل إصلاح المجاري، وشراء سيارة إطفاء جديدة، إلى آخره».

أعلنتها جماعة المعارضة، وبينما لم يقولوها صريحة، فقد لمحوا لاحتمالية وجود صفقة سرية بين العمدة ومطور العقارات.

قال العمدة ردًا على ذلك:

1. لو سمحت البلدة ببناء ناطحة السحاب، ستزداد عوائدها الضريبية بشكلٍ هائل، لدرجة أن تكلفة الإحتفاظ بالفيل ستغدو ضئيلة بالمقارنة؛ وبالتالي، من المنطقي أن تعتني البلدة بالفيل.
2. كان الفيل عجوزًا للغاية، لدرجة أنه لا يأكل كثيرًا، ولايحتمل أن يشكل خطرًا على أي شخص.
3. عندما يموت الفيل، ستستحوذ البلدة بالكامل على الأرض التي تبرع بها مطور العقارات.
4. يمكن أن يصبح الفيل رمزًا للبلدة.

أفضت المناقشة الطويلة للإتفاق على أن البلدة سوف تتولى مسؤولية الفيل. كضاحية سكنية عتيقة وراسخة، تمتعت البلدة بحياة رغيدة نسبيًا، وأساسها المالي كان سليمًا. كان تبنّي الفيل الشريد خطوة يمكن أن ينظر لها الناس بشكلٍ إيجابي. أحب الناس الفيلة الهرمة أكثر من المجاري وسيارات الإطفاء.

أنا شخصيًا كنت أؤيد تولي المدينة رعاية الفيل. صحيح أنني كنت قد سئمت ناطحات السحاب، لكني أحببت فكرة أن تمتلك المدينة فيلًا.

تم تهذيب منطقة مشجرة، ونقلوا إليها صالة الألعاب العتيقة للمدرسة الإبتدائية لتمثِّل بيت الفيل. سيأتي الرجل الذي عمل على حراسته سنوات عديدة ليقيم معه في البيت. سيُطعَم الفيل من بقايا غداء الأطفال. وأخيرًا، نُقِلَ الفيل في مقطورة إلى مسكنه الجديد، ليقضي هناك ماتبقى من عمره.

انضممت إلى الحشد في مراسم الإحتفال بالفيل. وقف العمدة أمام الفيل وألقى خطابًا عن تنمية المدينة وإثراء المنشآت الثقافية، ووقف أحد تلاميذ المدرسة الإبتدائية، ممثلًا الهيئة الطلابية، ليقرأ مقال إنشائي «فلتعش حياة مديدة، وافرة بالصحة، سيدي الفيل»، وكان هناك مسابقة في الرسم (صار رسم الفيل بعد ذلك جزءًا لايتجزأ من التعليم الفني للتلاميذ)، وتولّت شابتين بفساتين ميّاسة (لم تكن أيًا منهما ذات جمال لافت) مهمة إطعام الفيل حفنة من الموز. تحمَّل الفيل هذه الإجراءات الإفتراضية الفارغة (وهي فارغة تمامًا بالنسبة إلى الفيل) بلا أن يحرِّك جفنًا، والتهم الموز بعينين شاردتين. وعندما انتهى من تناول الموز، هلل الجميع.

ارتدى الفيل في ساقه اليمنى الخلفية، قيد حديدي ثقيل، امتدت منه سلسلة سميكة بطول 30 قدم تقريبًا، تلك السلسلة اتصلت بدورها جيدًا بلوحٍ خرساني. أي شخص يمكن أن يرى مدى قوة المرساة التي ثبتت الفيل في المكان؛ حيث يمكن أن يكافح الفيل بكل قوته لمئة عام، ولايتمكن من كسر القيد أبدًا.

لم أستطع تخمين ما إذا كان الفيل منزعجًا من قيوده. على الأقل لم يبدو على ملامحه أي وعي بقطعة المعدن الضخمة الملتفة حول قدمه. لقد أبقى نظرته الفارغة معلقة بنقطة مجهولة في الفضاء، بينما تتمايل أذناه وشعيرات جسده البيضاء القليلة بلطف مع النسيم.

كان حارس الفيل عجوزٌ ضئيلٌ نحيل، وكان من الصعب تخمين عمره، قد يكون في أوائل الستينات أو في أواخر السبعينات. كان واحدًا من أولئك الذين لايستمر مظهرهم بالتأثر بالسن بعد مرورهم بنقطة معينة في الحياة. كانت تظهر بشرته بلون سفعة الشمس الحمراء الداكنة، سواء في الصيف أو الشتاء، وكانت عيناه صغيرتان. لم يكن لدى وجهه سمات مميزة، لكن كان لديه أذنين دائريتين ذات بروزٍ يثير القلق.

لم يكن رجلًا بغيضًا، وكان واضحًا في أنّهُ لن يصد أي شخص يحاول التواصل معه، كما أنه يمكن أن يصير جذّابًا تقريبًا لو أراد، رغم أنك ستعلم دائمًا أنه كان منزعجًا إلى حدٍ ما. إجمالًا، سيظل عجوز، متحفظ، وحيد. كان يبدو أشبه بالأطفال الذين يزورون بيت الفيل، وكان يحاول أن يكون لطيفًا معهم، لكن الأطفال لم يشعروا بالحميمية أبدًا تجاهه.

لم يشعر بالحميمية تجاهه سوى الفيل. عاش الحارس في غرفة صغيرة مجهزة، ملحقة ببيت الفيل، يمكث مع الفيل طيلة اليوم، ملبيًا احتياجاته. كانا معًا لأكثر من 10 سنوات، ويمكن أن تستشعر مدى انسجامهما في كل لفتة ونظرة. كلما أراد الحارس تحريك الفيل الشارد من مكانه، لم يكن عليه سوى الوقوف بجواره، ونقر ساقه الأمامية، وهمس شيئًا في أذنه، فيحرك الفيل جسده الضخم، حيث أراد الحارس بالضبط، متخذًا وضعيته الجديدة، ومتابعًا التحديق في بقعة ما في الفضاء.

كنت أمر على بيت الفيل في عطلة نهاية الأسبوع، وأدرس هذه العمليات، لكني لم أتمكن أبدًا من معرفة المبادئ التي يستند عليها التواصل بين الحارس والفيل. ربما يستطيع الفيل فهم بضع كلمات بسيطة (لقد عاش طويلًا كفاية ليفهم بالتأكيد)، أو ربما يتلقى تعليماته من خلال النقرات المختلفة على ساقه. أو ربما يملك بعض القدرات الخاصة مثل التخاطر الذهني، ويستطيع قراءة ذهن الحارس. سألت الحارس ذات مرة كيف يعطي أوامره للفيل، لكن العجوز لم يفعل سوى الإبتسام، وقال: «نحن معًا منذ وقتٍ طويل».

وهكذا مر عام، ثم اختفى الفيل دون سابق إنذار. كان هنا ذات يوم، وفي اليوم التالي لم يعد هنا.

سكبت لنفسي المزيد من القهوة، وقرأت القصة مجددًا من البداية للنهاية. الحقيقة أنه كان مقال غريب جدًا، من النوعية التي قد تثير اهتمام شيرلوك هولمز ذاته، حتى أنه كان ليقول وهو ينقر غليونه: «انظر لهذا يا واطسون، أنه مقال مثير جدًا للإهتمام. مثير جدًا حقًا».

مامنح المقال مسحته الغريبة كان الإرتباك الواضح وحيرة الصحفي، الإرتباك والحيرة اللذان نبعا بالطبع من عبثية الوضع ذاته. يمكن أن ترى كيف أن الصحفي كافح من أجل العثور على طرق ذكية وسط العبث سعيًا لكتابة مقال ”طبيعي“. لكن الكفاح لم يفعل سوى الدفع بارتباكه وحيرته لدرجة ميؤوس منها.

على سبيل المثال، يستخدم المقال عبارات مثل ”هروب الفيل“، لكن لو نظرت للصورة الكاملة، ستجد أنه من الواضح أن الفيل لم ”يهرب“ بأي حال من الأحوال، بل تبخر في الهواء. كشف الصحفي عن حيرته عندما ذكر أن بعض ”التفاصيل“ مازالت ”غير واضحة“، لكني شعرت أن هذه ليست ظاهرة يمكن نبذها باستخدام مصطلحات عادية مثل ”تفاصيل“، أو ”غير واضحة“.

أولًا، هناك مشكلة القيد الحديدي الذي كان يقيد ساق الفيل، ووُجِدَ مُغلقًا كماهو. التفسير الأكثر منطقية لهذا سيكون أن الحارس قام بفكّ الحلقة عن ساق الفيل وأعاد إغلاقها مجددًا، وهرب مع الفيل. تلك الفرضية التي تمسَّكَت بها الصحيفة بإصرار يائس، رغم حقيقة أن الحارس لم يكن لديه المفتاح! لايوجد سوى مفتاحين، أبقتهما البلدة داخل خزينتين آمنتين، واحد في مقر الشرطة الرئيسي، والآخر في محطة الإطفاء، كلاهما بعيدًا عن متناول الحارس، أو أي شخص قد يحاول سرقتهما. وحتى لو نجح أحدهم في سرقة مفتاح، فلايوجد مايدفع هذا الشخص لإعادة المفتاح بعد استخدامه. في صباح اليوم التالي وُجِد المفتاحين في خزينتيهما داخل مركزيّ الشرطة والإطفاء. ممايدفعنا إلى استنتاج أن الفيل قد سحب ساقه خارج الحلقة الحديدية دون مساعدة المفتاح، وهذه استحالة مُطلَقَة، إلا أذا قام أحدهم بنشر ساق الفيل.

المشكلة الثانية هي طريقة الهروب. أحيط بيت الفيل وحديقته بسياج ضخم ارتفاعه حوالي 10 أقدام. حظت مسألة الأمن بنقاش ساخن في مجلس المدينة، واستقرت المدينة على نظام يمكن أن يعتبر باهظًا نوعًا لمنع فيل عجوز من الهرب. غُرِزَت قضبان حديدية ثقيلة في قاعدة خرسانية سميكة (تحملت الشركة العقارية تكلفة السور)، وكان هناك مدخل واحد فقط، وُجِد مُغلقًا من الداخل. لم يكن هناك سبيل لهروب الفيل، في ظل وجود هذا السياج المنيع.

المشكلة الثالثة هي مسارات الفيل. هناك تلة شديدة الإنحدار تقع مباشرًة خلف سياج الفيل، ويستحيل أن يكون الفيل قد تسلقها، فحتى لو افترضنا أن الفيل قد تمكن من سحب ساقه بطريقٍة ما خارج القيد الحديدي وقفز فوق سور ارتفاعه 10 أقدام، فسيظل مضطرًا لسلوك الطريق الذي يقع أمام السياج، ولم يكن هناك علامة واحدة في أي مكان فوق أرض هذا المسار يمكن أن تعتبر بصمة لفيل.

وسط كل تلك الألغاز التي طُرِحت والتساؤلات واللف والدوران، تطرق مانشرته الصحيفة لكل الإستنتاجات، عدا استنتاج واحد: أن الفيل لم يهرب، وإنما اختفى.

غني عن الذِكر أن كلٍ مِن الصحيفة والشرطة والعمدة لم يكن لديهم استعداد للإعتراف -علنًا على الأقل- أن الفيل قد اختفى. واصلت الشرطة تحقيقها، ولم يقل المتحدث باسمها سوى أن الفيل إما «اختُطِف أو سُمِح له بالهرب في خطوة ذكية، وتعمد محسوب. أنها فقط مسألة وقت حتى نتمكن من حل القضية؛ نظرًا للصعوبة التي تكمن في إخفاء فيل»، وأضاف لهذا التقييم المتفائل أنهم كانوا يخططون لتمشيط غابات المِنطقة بمعونة نوادي الصيد المحلية وقناصة من قوات الدفاع الوطنية.

عقد العمدة مؤتمرًا صحفيًا، حيث أعرب عن اعتذاره لنقص موارد شرطة المدينة، وأعلن في الوقت نفسه أن «نظام الفيل الأمني يماثل قطعًا الوسائل الأمنية في أي حديقة حيوان في البلاد، بل أنه أقوى بكثير في الواقع، وأكثر أمنًا من الأقفاص الإعتيادية»، وأشار إلى أن «هذا فعل خطير وأحمق، وهو من أكثر الأفعال خبثًا ومعاداة للمجتمع، ولايمكن أن نسمح له بالمرور دون عقاب».

أطلق أعضاء حزب المعارضة في مجلس المدينة الإتهامات، كمافعلوا العام السابق: «نحن نعتزم أن ننظر في أمر مسؤولية العمدة السياسية؛ لقد تواطأ مع مؤسسات القطاع الخاص بغية قطع وعود وهمية لأهالي البلدة لحل مشكلة الفيل».

قالت إحدى الأمهات القلقات (تبلغ من العمر 37 عامًا) في حوار مع الصحيفة: «صرت أخشى الآن ترك طفلي يلعب في الخارج».

شملت التغطية موجز تفصيلي للخطوات التي أدت لقرار تبني المدينة للفيل، ورسم جوي لبيت الفيل والحديقة، وتاريخ مختصر للفيل والحارس الذي اختفى معه. الرجل، نوبورو واتانابي، البالغ من العمر 63 عامًا، كان من تاتياما في مقاطعة تشيبا. عمل لسنوات عديدة كحارس في قسم الثدييات بحديقة الحيوان، و”قد حظي بكامل ثقة سلطات الحديقة، نظرًا لعلمه الغزير بهذه الحيوانات وشخصيته الصادقة الدافئة“. كان الفيل قد أُرسِل من شمال أفريقيا قبل 22 عامًا، لكن قِلّة من كانوا على علم بعمره الدقيق أو ”شخصيته“. اختتم التقرير بطلب الشرطة من مواطني المدينة أن يتقدموا بأية معلومات قد تكون لديهم بشأن الفيل.

فكرت قليلًا في هذا الطلب وأنا أحتسي فنجان القهوة الثاني، لكني قررت ألا أتصل بالشرطة. فضّلت عدم التورط معهم لو كان بإمكاني مد يد العون، وشعرت أنهم لن يصدقوا مالدي. أي فارق يمكن أن تصنعه جراء التحدث مع أشخاصٍ كهؤلاء، أشخاص لن ينظروا حتى في احتمالية أن الفيل قد اختفى ببساطة؟

أخذت دفتر القصاصات من فوق الرف، قصصت مقالة الفيل، ولصقتها بداخله، ثم غسلت الأطباق واتجهت إلى المكتب.

شاهدت البحث في أخبار الساعة السابعة. كان هناك صيادين يحملون بنادق ذات فوّهات واسعة ملقمة بسهام مهدئة، وفرقة من قوات الدفاع الذاتي، ورجال شرطة، ورجال إطفاء، يمشطون جميعًا كل إنش مربع من الغابات والتلال في المنطقة المحيطة، كما حلقت المروحيات في السماء. نحن نتحدث بالطبع عن نوعية ”الغابات“ و”التلال“ التي تجدها في الضواحي خارج طوكيو، حيث لم يكن أمامهم منطقة شاسعة للتغطية. ينبغي أن يكون يوم أكثر من كافي لإنهاء البحث، مع كل هؤلاء المشاركين. وهم لايبحثون عن قاتل صغير معتوه؛ بل يسعون وراء فيل إفريقي ضخم. كان هناك عدد محدود من الأماكن التي يمكن أن يختبئ بها الفيل، لكنهم لم ينجحوا في العثور عليه رغم ذلك. ظهر رئيس الشرطة على الشاشة قائلًا: «نحن نعتزم مواصلة البحث». وختم المذيع التقرير بقوله: «من حرر الفيل، وكيف؟ أين خبأوه؟ وماهي دوافعهم؟ لايزال كل شيء محاطًا بالغموض».

استمر البحث لعدة أيام، لكن السلطات لم تتمكن من اكتشاف دليل واحد عن مكان الفيل. درست تقارير الصحيفة، قصصتهم جميعًا، ولصقتهم في دفتر القصاصات، بما في ذلك الكاريكاتير الصحفي المتعلق بالموضوع. امتلأ الألبوم سريعًا، واضطررت إلى شراء آخر. لم تحتوي القصاصات على حقيقة واحدة من النوع الذي كنت أبحث عنه، رغم حجمها الهائل. كانت التقارير إما عديمة الجدوى أو خاطئة: لايزال الفيل مفقودًا، وجوم تام يسيطر على مقر البحث، عصابة وراء الإختفاء؟ وحتى مقالات مثل هذه صارت شحيحة بشكلٍ ملحوظ بعد مرور أسبوع، حتى لم يعد هناك شيء فعليًا. نشرت بعض المجلات الأسبوعية قصصًا مثيرة -حتى أن إحداها استأجرت خبير روحاني- لكنهم لم يملكوا أي دليل لإثبات عناوينهم المثيرة. بدا أن الناس بدأوا في إدراج قضية الفيل ضمن الفئة الكبيرة من ”الأسرار مستعصية الحل“. لم يمثل اختفاء فيل عجوز وحارس عجوز أي تأثير على مسار المجتمع. ستتابع الأرض دورتها الرتيبة، سيستمر السياسيين في إصدار إعلاناتهم التي لايعوّل عليها، سيواصل الناس التثاؤب في طريقهم إلى العمل، وسيظل الأطفال يدرسون من أجل امتحانات دخولهم إلى الكلية. وسط الفوران الذي لانهاية له وتدهور الحياة اليومية، لايمكن أن يدوم الإهتمام بفيل مفقود إلى الأبد. وهكذا، مر عدد غير ملحوظ من الشهور، كعرض عسكري لجيش مُتعَب أمام نافذة.

كنت أذهب لزيارة البيت الذي كان يأوي الفيل، كلما حظيت بوقت فراغ. أحاطت سلسلة سميكة بقضبان بوابة الفناء الحديدية، لإبقاء الناس بالخارج. أمعن النظر بالداخل، فأرى أن باب بيت الفيل أحيط هو الآخر بسلسلة حديدية وأُغلَق، كما لو أن الشرطة تحاول التعويض عن فشلها في إيجاد الفيل عن طريق مضاعفة طبقات الأمن على بيت الفيل الذي صار خاويًا. كانت المنطقة مهجورة، واستُبدِلَت الحشود السابقة بالحمام المنتشر فوق السور. لم يعد أحد يعتني بالحديقة، وانتشر عُشب صيفي أخضر غزير كما لو كان يتحين هذه الفرصة. ذكرتني السلسلة الملفوفة حول باب بيت الفيل بثعبان ضخم يحرس قصر مهدّم في غابة كثيفة. بضعة أشهر قليلة دون وجود الفيل منحت المكان رائحة الفناء والخراب الذي عَلِق هناك مثل سحابة مطر كثيفة غاشمة.
***
قابلتها قرب نهاية سبتمبر. كانت الأمطار تهطل ذلك اليوم من الصباح وحتى المساء— نوعية المطر الضبابية، الرتيبة، الناعمة، التي غالبًا ماتهطل في ذلك الوقت من السنة، لتجرف شيئًا فشيئًا ذكريات صيفٍ أحرق الأرض. وعبر المزاريب، تصبّ كل تلك الذكريات في المجاري والأنهار، لتُنقَل إلى المحيط المُظلِم، العميق.

لاحظنا بعضنا في حفلة أقامتها شركتي لتدشين حملتها الإعلانية الجديدة. أعمل في قسم العلاقات العامة في الشركة المُصنِّعة الرئيسية للأجهزة الكهربية، وفي الوقت ذاته كنت مسؤولًا عن الدعاية لخط تنظيم معدات المطبخ، التي كان من المقرر أن تُطلَق في الأسواق في وقت مواسم حفلات الزفاف الخريفية ومنحة الشتاء. كان عملي يتمثل في التفاوض مع عدد من المجلات النسائية لكتابة مقالات دعائية، ولا أعني هذا النوع من الدعاية التي تتطلب قدرًا كبيرًا من الذكاء، لكن كان علي التأكُّد من أن المقالات التي كتبنها لن تفسد الحملة الدعائية. عندما تمنحنا المجلات الدعاية، نكافئهم عن طريق نشر إعلانات في صفحاتهم. هكذا يجري العمل، يخدموننا، ونخدمهم.

أتت إلى الحفل لجمع بيانات لكتابة إحدى تلك ”المقالات“، باعتبارها محررة في مجلة لربات البيوت الشابات. وحدث أن كنت مسؤولًا عن اصطحابها في جولة، مشيرًا إلى مزايا الثلاجات الملونة وماكينات إعداد القهوة وأفران الميكروويف والعصّارات التي صممها لنا مصمم إيطالي شهير.

قلتُ موضِّحًا: «إن أكثر مايهم هو التناغم. حتى أجمل العناصر تصميمًا تموت لولم تكن متوازنة مع مايحيط بها. تناغم التصميم، وتناغم اللون، وتناغم الآداء: هذا مايحتاجه مطبخ اليوم أكثر من أي شيءٍ آخر. الأبحاث تخبرنا أن ربة البيت تقضي أغلب يومها في المطبخ. المطبخ هو مكان عملها، ودراستها، وغرفة معيشتها.. لهذا تفعل كل مايمكنها لتجعل من المطبخ مكان يطيب لها التواجد فيه. الأمر لاعلاقة له بالحجم. سواء كان كبيرًا أو صغيرًا، مبدأٌ أساسيٌ واحد يحكم كل مطبخ ناجح؛ ألا وهو التناغم. هذا هو المفهوم الذي يرتكز عليه تصميم سلسلتنا الجديدة. انظري لهذا الموقد على سبيل المثال...».

أومأت ودوّنت أشياء في دفتر صغير، لكن كان واضحًا أن اهتمامها بالمعلومات كان قليلًا، ولم يكن لديّ اهتمامٌ خاص بموقدنا الجديد كذلك. كلانا كان يمارس وظيفته.

قالت عندما انتهيت: «أنت تعرف الكثير عن المطابخ». ونطقت ”مطابخ“ باليابانية، وليس بالإنجليزية كما كنت أفعل.

أجبت بابتسامة مهنيّة: «هذا ما أفعل لكسب لقمة العيش، كما أنني أحب الطهو. لست محترفًا، لكني أعد الطعام لنفسي كل يوم».

قالت: «لكني أتساءل مع ذلك، لو كان التناغم هو كل مايلزم المطبخ».

نصحتها: «نحن ننطق ”مطبخ“ بالإنجليزية. ليس أمرًا هامًا، لكن الشركة تريدنا أن نستخدم الإنجليزية».

فقالت: «معذرًة. لكني لازلت أتساءل: هل التناغم مهم جدًا بالنسبة للمطبخ؟ ما رأيك؟».

قلت بابتسامة: «رأيي الشخصي؟ أنا لا أصرِّح به سوى خارج أوقات العمل الرسمية، لكني سأقوم باستثناء اليوم. المطبخ ربما يحتاج إلى بضعة أشياء أكثر من حاجته للتناغم، لكن تلك العناصر الأخرى أشياء لايمكنكِ بيعها، وفي عالمنا البراجماتي هذا، لايُعوّل كثيرًا على الأشياء التي لايمكن بيعها».

- «أترى أن العالم مكان براجماتي؟».

أخرجت سيجارة وأشعلتها بقداحتي، وقلت: «أنا لا أعرف، كان مجرد رأيٌ عفوي، لكنه يفسر الكثير، كما أنه يجعل العمل أسهل. يمكن أن تمارسي به الألعاب، تشكّلي تعبيرات أنيقة: ’’البراجماتية أَسَاسِيًّا‘‘، أو ’’البراجماتية في الباطِن‘‘. يمكنك تجنب جميع أنواع المشاكل المعقدة، لو نظرتِ للأمور بهذه الطريقة».

- «يالها من وجهة نظر مثيرة للإهتمام!».

- «ليس حقًا، فهذا مايظنه الجميع. بالمناسبة، لدينا شامبانيا جيدة جدًا، أترغبين في القليل؟».

- «أشكرك. لامانع لدي».

تبادلنا الحديث أثناء شُرب الشامبانيا، وأدركنا أن لدينا العديد من المعارف المشتركين، ولم يكن هذا مفاجِئًا؛ نظرًا لأن مجالنا في سوق العمل ليس كبيرًا جدًا. فوق ذلك، تصادف أنها تخرجت وشقيقتي الصغرى من نفس الجامعة. ومع أشياء مشتركة كهذه، استمر حديثنا بسلاسة.

لم تكن متزوجة، وكذا كنت. كانت في السادسة والعشرين، وكنت في الواحد والثلاثون. كانت ترتدي عدسات لاصقة، وكنت أرتدي نظارات. أشادت بربطة عنقي، وأثنيت على سترتها. قارننا بين إيجار شقتينا وتذمّرنا من وظائفنا ومرتباتنا. بعبارة أخرى، كنا بدأنا نعجب ببعضنا البعض. كانت امرأة جذابة، ولم تكن لحوحة على الإطلاق. وقفت هناك أتحدث معها طوال 20 دقيقة كاملة، غير قادر على اكتشاف أي شيء سيء بها.

حينما أوشك الحفل على الإنتهاء، دعوتها للإنضمام لي في مشرب الفندق، حيث جلسنا لمتابعة حديثنا. تساقط مطر هادئ خارج نافذة المشرب البانورامية، أرسلت أضواء المدينة رسائل باهتة خلال الضباب. ساد المشرب شبه الخاوي سكون كئيب. طَلَبَتْ كوكتيل مثلج وطلبتُ سكوتش بالثلج.

خلال احتساء المشروبات، واصلنا نوعية الأحاديث التي تدور بين رجل وامرأة في حانة عندما يكونا قد تقابلا لتوهما وبدأ بينهما تبادل الإعجاب. تحدثنا عن أيام الكُلِّيَّة، وذوقينا في الموسيقى، والرياضة، وروتيننا اليومي.

ثم أخبرتها عن الفيل. كيف حدث هذا بالضبط، لا أستطيع أن أذكر. ربما كنا نتحدث عن شيء له علاقة بالحيوانات، مما خلق سياقًا ملائمًا، أو ربما كنت أبحث -دون وعي- عن مستمع جيد يمكن أن أعرض عليه وجهة نظري الفريدة في اختفاء الفيل. أو بعد كل هذا، قد يكون الخمر هو ماجعلني أتحدث.

على أي حال، لقد أدركت في اللحظة التي طرحت فيها الموضوع، أنني اخترت أحد أقل المواضيع ملائَمة لمناسبة كهذه. لا، لم يكن يجب أن أذكر الفيل أبدًا. كان الموضوع منتهيًا ومغلقًا تمامًا.

حاولت الإنتقال سريعًا إلى موضوع آخر، لكن شاء حسن الحظ أن تكون أكثر اهتمامًا من الأغلبية بقضية اختفاء الفيل، وأغرقتني بالأسئلة فور اعترافي برؤية الفيل مرات عديدة: ماذا كان نوعه، وكيف أعتقد أنه هرب، وماذا كان يأكل، ألم يكن خطرًا على المجتمع، وهكذا دواليك.

لم أخبرها أكثر مما يعرفه الجميع من الأخبار، لكن يبدو أنها شعرت بارتباك في نبرة صوتي. لم أكن جيدًا في الكذب قط.

ارتشفَتْ شرابها الثاني كأنها لم تلاحظ بسلوكي أي شيء غريب، وسألتني: «ألم تُصدَم عندما اختفى الفيل؟ ليست هذه نوعية الأشياء التي يمكن أن يتوقعها أي شخص».

قلت: «لا، ليس على الأرجح». أخذت قطعة مقرمشات من الطبق الزجاجي فوق طاولتنا، قسمتها إلى نصفين، أكلت إحداهما. استبدل النادل منفضة سجائرنا بأخرى نظيفة.

نظرت لي بترقب. أخرجت سيجارة أخرى وأشعلتها. كنت قد أقلعت عن التدخين قبل 3 سنوات، لكني عدت مرًة أخرى عندما اختفى الفيل.

قالت: «لِمَ ’’ليس على الأرجح‘‘؟ تعني أنه كان باستطاعتك توقع الأمر؟».

قلت بابتسامة: «لا، لم أستطع توقع الأمر بالطبع، لاتوجد سوابق لاختفاء فيل فجأة ذات يوم، ولاحاجة لحدوث شيء من هذا القبيل. الأمر لايحمل أي معنى منطقي».

- «لكن إجابتك كانت غريبة جدًا رغم ذلك. عندما قلت لك أن هذه ’’ليست نوعية الأشياء التي يمكن أن يتوقعها أي شخص‘‘، أجبت بـ’’لا، ليس على الأرجح‘‘، بينما كان سيجيب معظم الناس بـ’’أنتِ على حق‘‘، أو ’’أجل، هذا غريب‘‘ أو شيء من هذا القبيل. أتفهم ما أعني؟».

أرسلتُ إيماءة مبهمة في اتجاهها ورفعت يدي استدعاءًا للنادل. سيطر نوع من الصمت المؤقت أثناء انتظاري ليجلب لي المزيد من السكوتش.

قالت بهدوء: «أجد هذا عثيرٌ على الفهم بعض الشيء، كنت تجري معي حوارًا طبيعيًا قبل دقائق، على الأقل حتى طرحت موضوع الفيل، ثم حدث شيء غريب. لم يعد بإمكاني فهمك. هناك شيء خاطئ. أهو الفيل؟ أم أن أذنيّ تخدعاني؟».

قلت: «لاتوجد مشكلة في أذنيكِ».

فقالت: «إذًا المشكلة بك أنت».

وضعت إصبعي في كأسي وحركت الثلج. أحب صوت الثلج في كأس الويسكي.

- «لم أكن لأدعوها مشكلة بالضبط، فالأمر أبسط من ذلك، ولا أحاول إخفاء أي شيء. أنا فقط لست واثقًا أنني أستطيع التحدث عن الأمر بشكلٍ جيد، فأحاول ألا أقول أي شيء على الإطلاق، لكنكِ على حق؛ الأمر غريب جدًا».

- «ماذا تعني؟».

لم يعد هناك مفر؛ يجب أن أحكي لها القصة. أخذت جرعة ويسكي وبدأت.

- «الأمر هو أنني قد أكون آخر من رأى الفيل قبل اختفائه. لقد رأيته بعد السابعة من مساء يوم السابع عشر من مايو، وقد لاحظوا اختفائه بعد ظهر الثامن عشر. لم يره أحد فيما بينهما لأنهم يغلقون بيت الفيل في السادسة».

- «لم أفهم الأمر. لو كانوا يغلقون البيت في السادسة، فكيف رأيته بعد السابعة؟».

- «هناك مايشبه المنحدر خلف بيت الفيل. تلة شديدة الإنحدار في ملكية خاصة، بلا طرق حقيقية. هناك بقعة واحدة، فوق التلة، حيث يمكنكِ النظر داخل بيت الفيل. ربما أنا الوحيد الذي يعلم بها».

لقد وجدت البقعة بمحض الصدفة. كنت أتنزه في المنطقة بعد ظهر يوم أحد، وحدث أن ضللت طريقي وانتهى بي الأمر فوق قمة المنحدر. وجدت رُقعة صغيرة مسطحة، تكفي لاحتواء شخص واحد فحسب، وعندما نظرت عبر الشجيرات، رأيت سقف بيت الفيل. أسفل حافة السقف كانت هناك ثغرة كبيرة نسبيًا، حظيت خلالها برؤية واضحة لبيت الفيل من الداخل.

جعلتها عادة بعد ذلك. كنت أذهب لزيارة المكان من حينٍ إلى آخر لمشاهدة الفيل حين يكون داخل البيت. لو حدث وسألني أي شخص: لماذا أتكلف عناء فعل شيء كهذا، لن يجد لدي إجابة لائقة. ببساطة أستمتع بمشاهدة الفيل خلال وقته الخاص. هذا كل مافي الأمر. لا أستطيع رؤية الفيل حين يُظلِم البيت بالداخل طبعًا، لكن في الساعات الأولى من المساء يترك الحارس الأضواء خلال الوقت الذي يعتني فيه بالفيل، مما أتاح لي دراسة المشهد بالتفصيل.

ما أدهشني على الفور حين رأيت الفيل وحارسه وحدهما، كان الإعجاب الواضح الذي يكناه لبعضهما البعض، وهو مالم يفصحا عنه أبدًا أثناء وجودهما بالخارج أمام الجمهور. كانت عاطفتهما واضحة في كل إيماءة. ويبدو أنهما كانا يختزنا مشاعرهما أثناء النهار، ويحرصا على ألا يدعا أي شخص يلاحظها، ويعبرا عنها في الليل حين يصيرا وحدهما. هذا لايعني أنه كان يبدر منهما أي شيء مختلف حين يكونا وحدهما بالداخل. كان الفيل يقف شاردًا كالعادة، بينما يقوم الحارس بآداء المهام التي يتوقع منه المرء آداءها باعتباره حارسًا: فرك جسد الفيل بفرشاة خَشِنة، والتقاط فضلات الفيل الهائلة، وتنظيف المكان بعدما يأكل الفيل. لكن لم يكن هناك مجال لعدم ملاحظة الدفء الإستثنائي وشعور الثقة فيما بينهما. كان الفيل يربت ظهر الحارس بخرطومه أثناء كنسه الأرضية، وكنت أحب رؤيته وهو يفعل هذا.

سألتني: «أكنت دائمًا مولعًا بالفيلة؟ أعني، ليس هذا الفيل بعينه فحسب؟».

قلت: «إذا أمعنّا التفكير في الأمر، سنجد أنني أحب الفيلة. هناك شيء يثيرني بشأنهم. أعتقد أنني دائمًا ما أحببتهم، ولا أعرف لذلك سببًا».

«أفترض أنك كنت فوق التلة في ذلك اليوم أيضًا، بعد مغيب الشمس، تراقب الفيل. في شهر مايو.. أي يومٍ كان؟».

«السابع عشر. السابعة من مساء يوم 17 من مايو. كانت الأيام طويلة جدًا في ذلك الوقت، وقد توهجت السماء بالحُمرة، لكن الأنوار كانت مُضاءة في بيت الفيل».

- «وهل لاحظت بالفيل أو الحارس أي شيء غريب؟».

- «حسنًا، لاحظت ولم ألحظ. لا أستطيع التحديد. ليس كما لو كانا يقفا أمامي مباشرًة. ربما لست أكثر شاهِد جدير بالثقة».

- «ماذا حدث بالضبط؟».

شربت جرعة من السكوتش الذي ذاب فيه الثلج وصار سكوتش بالماء الآن. استمرت الأمطار بالهطول خارج النوافذ، نفس الغزارة السابقة، عنصر ثابت في المناظر الطبيعية لن يتغير أبدًا.

- «لم يحدث شيء، حقًا. كان الفيل والحارس يفعلا ما اعتادا فعله دائمًا: التنظيف، والأكل، واللعب معًا بطريقتهم الودودة. ليس الأمر أن أفعالهما كانت غريبة، لكنها الطريقة التي بديا عليها. شيء متعلق بالتوازن فيما بينهما».

- «التوازن؟».

«في حجم جسديهما. بدا أن التوازن قد تغير نوعًا ما. انتابني الشعور بأن التبايُن بينهما قد تقلّص إلى حدٍ ما».

ظلّت تحدِّق في كأس الكوكتيل لفترة. أمكنني رؤية أن مكعبات الثلج قد ذابت وأن المياه شقّت طريقها خلال الكوكتيل مثل محيط صغير متدفِّق.

- «بمعنى أن الفيل قد صار أصغر حجمًا؟».

- «أو أن الحارس قد صار أكبر، أو كلاهما معًا».

- «ولم تخبر الشرطة بهذا؟».

قلت: «بالطبع لا. أنا متأكد أنهم لم يكونوا سيصدقوني، ولو كنت أخبرتهم أني كنت أشاهد الفيل من المنحدر في وقتٍ مثل هذا، كان سينتهي بي الأمر كالمشتبه الأول لديهم».

- «لكن هل أنت متأكد أن التوازن بينهما قد تغير؟».

- «على الأرجح. هذا كل ما أستطيع قوله. أنا لا أملك أي دليل، وكنت أشاهدهما من خلال فتحة التهوية كما أردد. لكني شاهدتهما من قبل مرّاتٍ عِدّة، لذا يصعب علي تصديق أنني قد أخطئ في تمييز شيء أساسي مثل العلاقة بين حجميهما».

في الواقع، كنت أتساءل وقتها إن كانت عيناي تخدعاني، وقد حاولت غلقهما وفتحهما وهز رأسي، لكن حجم الفيل ظل على حاله. لقد بدا كأنه تقلّص بالتأكيد؛ لدرجة أنني ظننت في البداية أن المدينة ربما اقتنت فيل جديد، أصغر. لكنني لم أسمع أي شيء عن هذا الأمر، ولم أكن لأفوِّت أي تقارير إخبارية تخص الفيلة. كان الإستنتاج الوحيد الممكن -لولم يكن هذا فيل جديد- أن الفيل القديم قد تقلّص لسبب أو لآخر. أثناء مشاهدتي، أصبح واضحًا بالنسبة لي أن هذا الفيل الأصغر لديه نفس حركات الفيل القديم. كان يدق الأرض بقدمه اليمنى بسعادة أثناء غسلها، وكان يربت ظهر الحارس بخرطومه الذي صار أنحل نوعًا.

كان مشهد غامض. أثناء النظر عبر فتحة التهوية، انتابني شعورٌ بأن نوع مختلف ومخيف من الزمن والمكان كان يتدفق عبر بيت الفيل. كما بدا لي أن الفيل والحارس استسلما بكل سرور لذلك النظام الجديد الذي كان يحاول الإستحواذ عليهما— أو الذي قد نجح جزئيًا في الإستحواذ عليهما.

عُمُومًا، ربما أكون قد راقبت المشهد في بيت الفيل لأقل من نصف ساعة. أُغلَقَت الأضواء في السابعة والنصف -مبكرًا عن المعتاد- وأحيط كل شيء بالظلام عند تلك النقطة. انتظرت في مكاني على أمل أن يعود الضوء مرًة أخرى، لكنه لم يعد قط.

كانت هذه آخر مرة رأيت فيها الفيل.

«أتعتقد إذًا أن الفيل ظل يتقلّص حتى أصبح صغيرًا بما يكفي للهرب من خلال القضبان، أو أنه تلاشى ببساطة في العدم. أهذا ماحدث؟».

قلت: «أنا لا أعرف. كل ما أحاول فعله هو استرجاع ذكرى ما رأيت بأم عيني، بأقصى قدر ممكن من الدقة. نادرًا ما أفكر فيما حدث بعد ذلك. الصورة البصرية التي لدي قوية للغاية، لدرجة أنه يستحيل عليّ عمليًا الذهاب لأبعد من ذلك».

كان هذا كل مايمكن أن أقوله عن اختفاء الفيل. ومثلما كنت أخشى، كانت قصة الفيل شديدة الخصوصية، ومكتملة جدًا في حد ذاتها، بحيث لا تصلح كموضوع حديث بين رجل وامرأة التقيا لتوهما. حل بنا الصمت بعدما انتهيت من سرد حكايتي. ماهو الموضوع الذي يمكن أن يفتحه أيًا منا بعد قصة عن فيل مختفي— قصة لم تترك ذيولًا تقريبًا لمزيد من المناقشة؟ أدارت أصبعها حول كأس الكوكتيل، وجلست أنا أعيد وأزيد في قراءة الكلمات التي طُبِعَت على قاعدة كأس السكوتش. لم يكن يجب أن أخبرها عن الفيل. لم تكن من نوعية القصص التي يمكن أن تحكيها بحرية لأي شخص.

تحدثَتْ بعد صمتٍ طويل: «اختفت قطتنا عندما كنت فتاة صغيرة، لكن هناك فرق بين اختفاء قط واختفاء فيل رغم ذلك».

«أجل، لا توجد مقارنة بالتأكيد، نظرًا لفرق الحجم».

بعد ثلاثين دقيقة، كنا نودع بعضنا خارج الفندق. تذكرَتْ فجأة أنها تركت مظلّتها داخل المشرب، فركبت المِصعد وجلبتها لها. كانت مظلة ذات لون أحمر طوبي بمِقبض كبير.

قالت: «شكرًا».

قلت: «طابت ليلتكِ».

تلك كانت آخر مرة رأيتها فيها. تحدثنا مرة على الهاتف بعد ذلك، عن بعض تفاصيل مقالها الدعائي. فكرت في دعوتها لتناول العشاء بينما نتحدث، لكني لم أقم بذلك. لم يبدو الأمر هامًا بطريقة أو بأخرى.

انتابني هذا الشعور كثيرًا بعد تجربتي مع الفيل المختفي. كنت أبدأ التفكير في رغبتي بالقيام بشيء، ثم أصبح عاجزًا عن تبيُّن النتائج المحتملة لفعل الشيء وعدم فعله. غالبًا ماكان ينتابني الشعور بأن الأشياء من حولي قد فقدت توازنها السليم، رغم أنه يمكن أن تصوراتي تخدعني. انهار نوع من التوازن بداخلي منذ قضية الفيل، وربما يسبب ذلك ظواهر خارجية، تصيب عيني بطريقة غريبة. ربما أنا السبب.

استمررت في بيع الثلاجات وأفران تحميص التوست وآلات إعداد القهوة في العالم البراجماتي، استنادًا إلى صور ضبابية لذكريات احتفظت بها من ذلك العالم. كلما حاولت أن أصبح أكثر براجماتية، كلما نجحت في البيع -حظت حملتنا بنجاح تجاوز أكثر توقعاتنا تفاؤلًا- وكلما نجحت في بيع نفسي لمزيدٍ من الناس. هذا ربما لأن الناس تبحث عن نوع من التناغم في المطابخ نعرفه جيدًا. تناغم التصميم، وتناغم اللون، وتناغم الآداء.

لم تعد الصحف تنشر أي شيء تقريبًا عن الفيل. يبدو أن الناس نست أن مدينتهم امتلكت فيل ذات يوم. العشب الذي استولى على سياج الفيل قد ذبُل الآن، والمنطقة تبعث في النفس إحساس الشتاء.

اختفى الفيل وحارسه تمامًا، ولن يعودا أبدًا.


التعليقات : 2

غير معرف

كعادة موراكامي يضرب رأسك بالحيرة في قصصة ذات السياق الغرائبي والممتع
ويدور في عقلي أن مقصده بسيط وأن الفيل ليس سوى مجاز عن الأشياء أو المشاعر التي تحتل حجم كبير في حياتنا ثم تتلاشى فجأة وكأنها لم تكن يومًا!

Unknown

شكراً

إرسال تعليق


أترك تعليق أو اضغط (Like) إذا أعجبك ما قرأته، وإذا لم ينل إعجابك، أخبرني: لماذا؟..
يمكنك الإشتراك عن طريق البريد الإلكتروني -أسفل صندوق التعليقات- لمتابعة الردود، وأرجو عدم وضع أي روابط دعائية في التعليقات.